سينما نهاية العالم: الفناء لعنة البشر أم خلاصهم؟

«سينماتوغراف» ـ يارا نحلة

كثيراً ما يتأمّل البشر مسألة الفناء. إلا أن هذه الفكرة، التي نزورها سريعاً ثم نوضبها في خلفية إدراكنا، تستحضرها أوقات كهذه لتضحي نهاية العالم، ليس الذات فحسب، فرضية ماثلة أمام عيوننا. السيناريوهات كثيرة ومتنوعة، ولعلّ أكثر الفنون التي خاضت فيها هي السينما التي لطالما أثارتها الوضعيات الكارثية، وقد أبدعت في صناعة الدمار وتصويره.

كثر هم السينمائيون الذين تخيلوا “الأبوكاليبس” أو القيامة، في شكل حرب نووية أو هجوم “زومبيز” (الأموات الأحياء) أو إرتطام نيزك.

منهم من تخيل الموت بطيئاً طويلاً، أو سريعاً خاطفاً؛ غضب إلهي أو عبث بشري. لكن أهم من الواقعة نفسها هو تعامل البشر معها، او بالأحرى عجزهم عن التعامل معها، وهو ما تتناوله الأفلام الثلاثة التي إخترناها من حقبات زمنية مختلفة.

الختم السابع

يعتبر الختم السابع The Seventh Seal 1957  للمخرج السويدي انغمار برغمان من كلاسيكيات السينما التي أحاطت بمسألة الموت إحاطة فلسفية ودينية. يطرح برغمان الإشكاليات الأزلية حول الموت، الحياة، والله، التي تتردّد على لسان الشخصية الرئيسية: لماذا لا أستطيع قتل الله الذي في داخلي؟ كيف يظلّ حياً على هذا النحو المؤلم والمذلّ، رغم جهودي الحثيثة للعنه وسلخه من قلبي؟ ماذا سيحصل لأولئك الذين لا يجدون داخلهم القدرة على الإيمان؟ وأولئك الذين لا يريدون إيجادها حتى؟

بحواراته المكثفة ورمزيته المفرطة، يلتقط برغمان السوداوية التي خيمت على المجتمع الأوروبي إبان تفشي وباء الطاعون أو ما يعرف بـ”الموت ألأسود”، موت يتجسّد في الفيلم عبر شخصية “سيد الموت”. حين يقوم سيد الموت بزيارة فارس عائد من الحملات الصليبية، يتحداه الأخير في لعبة شطرنج تحدّد مصيره. يقرر الفارس ملاعبة الموت، لا لأنه يخشى مقابلة خالقه، بل خشية مواجهة العدم. يتضرع إلى سيد الموت ملتمساً المعرفة العلمية، لا الإيمان الأعمى. يغوص الفيلم في مسألة الدين والإيمان، بشروطها المجتمعية والسيكولوجية، بوصفها وسيلة لتلقف بعض المعنى في خضم هذه المأساة العبثية التي يحياها البشر. إلا أن أسئلة الفارس المعذّب تقابَل بصمت الخالق، صمت مشابه لذلك الذي سيمهّد للعاصفة المطلقة؛ يوم القيامة.

بإصراره على صمت الرب، ينتهي برغمان إلى التسليم لعبثية الخلق والموت، من دون الحاجة لإستبطان أي معنى يتجاوز الواقع الحسي للوجود. هذه الإجابة لا يتلقاها البطل من أي قوى عظمى -الله أو ملاك الموت- وإنما من فم أكثر الشخصيات لامبالاة وإنغماساً في الملذات الدنيوية.

التضحية
في آخر أعماله، قدّم أندريه تاركوفسكي رائعة سينمائية وأدبية خالدة، عن الفناء والفقد، عنوانها التضحية The Sacrifice 1986.  يظلّل الصمت، مرة جديدة، الحوارات والمونولوجات الطويلة للشخصيات؛ صمت ثقيل يخيّم على عالم ينتظر سماع دوي حطامه في إبادة نووية محتمة. في عالم تاركوفسكي، أسرة برجوازية منزوية في بيت ريفي بعيد، تتلقى أخبار نهاية العالم -أو على الأقل العالم كما نعرفه، عبر التلفاز. يصوّر الفيلم الطرق المختلفة لتعامل الشخصيات مع هذه الحقيقة المرعبة. منهم من ينهار بصخب، يمانع ويعاند، ومنهم من يتهاوى بهدوء، محتفظاً بالذعر في عينيه.

ومنهم بالطبع من يتخذ صفة المنقذ، وهو في هذه الحالة آلكسندر، رب العائلة، الذي يأخذ على عاتقه التضحية بنفسه في سبيل تخليص العالم من قدره المشؤوم. يتوسّل آلكسندر إلى ربه، هو الذي كان يعتقد أن علاقته بالله “معدومة”، أن يقي العالم شرّ الحرب النووية، مقدماً نفسه قرباناً. يعد الله بالتخلي عن كل ما يملكه، بيته وأسرته التي يحبها، وكذلك كلمته. يقطع وعداً بالخرس إذا إستجاب الله لدعواته بالتخلص من ذاك “الخوف الحيواني القاتل والمقيت“.

يضع تاركوفسكي هذا الخوف من الموت والفناء في صلب الجنون. وحين يعانق بطل القصة، خوفه الحيواني، ويواجهه بكل ما أوتي من قدرة إنسانية، فإنه يصبح في عداد المجانين. عبر إختياره الصمت وسيلةً مطلقة للتضحية والخشوع، يستكشف تاركوفسكي أثر اللغة في الممارسة الروحانية وفي الإتصال بالذات والآخرين. فبتخلّيه عنها، يختار ألكسندر وصمة الجنون، يتحوّل إلى نكرة تحيا خارج السياق والخطاب الإجتماعيين. لكنه حين يضحّي بلسانه الناطق، يكتسب إبنه القدرة على النطق.

في المشهد الأخير، نسمع الطفل يتكلّم للمرّة الأولى، وهو يقوم بريّ الشجرة التي زرعها الأب في بداية الفيلم. يخاطب الطفل أباه الغائب قائلاً “في البدء كانت الكلمة، أليس كذلك يا بابا؟

ميلانكوليا
بشيء من السخرية السادية، تبدأ نهاية العالم في فيلم المخرج الهولندي المعنون “ميلانكوليا” Melancholia   (2011)، بعُرس. يطّلع مشاهد الفيلم على هذه المعلومة، أي نهاية العالم الوشيكة، قبل شخصيات الفيلم التي نراها تمضي في حياتها الإعتيادية، والسخيفة بعض الشيء، جاهلةً المصير الذي ينتظرها بعد بضعة أيام، هي الأيام التي تفصل كوكب الأرض عن إرتطامه بكوكب ضخم  يحمل اسم ميلانكوليا. تجعل هذه المعرفة الحصرية للجمهور، أفعال الشخصيات تبدو أكثر سخافة واعتباطية.

يماثل فون تراير بين القوة التدميرية الكونية لميلانكوليا- الكوكب، والقوة التدميرية الذاتية لميلانكوليا- الشعور. فالكوكب البالغ حجمه 16 ضعفاً من حجم الأرض هو استعارة للثقل الذي تجسّده كآبة جاستين، العروس، رغم إلحاح الجميع، لا سيّما شقيقتها الكبرى، بأن تكون “سعيدة”، وكأن سعادتها شرط لإستمرار دورة الكون. لكن الكل يفشل في إنتشالها من حالتها. لا يفلح في إنتشال البطلة من الشلل الوجودي الذي أصاب كيانها، سوى معرفتها بنهاية العالم القريبة؛ معرفة تبثّ فيها الأمل.

على غرار The Sacrifice، يقارب “ميلانكوليا” مسألة الجنون بوصفه مفتاحاً للإدراك والحقيقة. يمدّ المخرج، “جاستين”، بقدرة نبوئية وإستبصارية تتجسّد في نظرتها السوداوية تجاه الكون؛ نظرة تحضّرها للتعامل مع واقعة فناء العالم، بل تمنيها. في المقابل، تتخبط سائر الشخصيات لا سيّما شقيقتها، العقلانية والمنضبطة، في القلق والذعر. يدعونا فون تراير إلى الإستنتاج بأن يأس “جاستين”، بمَرَضيته، لم يكن سوى تقييم دقيق وموضوعي لواقع أكثر إعتلالاً. ورغم السوداوية التي تلفّ الفيلم، فإنه يقدّم نهاية العالم كحدث بالغ الجمال والمثالية والتفاؤل. ففي نهاية المطاف، العالم يستحق هذا المصير.

رغم إختلاف “ميلانكوليا” عن الفيلمين الأخيرين، من حيث إبتعاده عن الرمزية الدينية، فإنه يشترك معهما في تحميل البشر ذنب القيامة. وفي حين ركّز برغمان وتاركوفكسي على تخليص البشر من حتفهم المحتوم، فإن فون تراير يرى في هذا المصير الخلاص نفسه.

Exit mobile version