القاهرة ـ «سينماتوغراف»
لم تكن العلاقة بين الفنانة شادية واديب نوبل الكبير نجيب محفوظ مجرد علاقة ممثلة بأديب عرف طريقه للسينما وخلدها وخلدته تماما مثل رواياته الأخري التي لم تتحول لهذا الوسيط الجماهيري. وإنما يتجاوز الأمر الي نوع خاص من الحب والإعجاب المبني علي تقدير الكاتب الكبير لقيمة وجه شادية وأداءها الدرامي المفعم بالتعبير والحيوية وفي المقابل تقدير الفنانة الحساسة بدفئ سطور الاديب الكبير وصدقه البارع في معالجة موضوعاته وشخصياته.
وقد ترجم هذا الحب منذ اول مشهد جمع شادية بسطور نجيب في محفوظ في فيلمي «زقاق المدق» لحسن الإمام و«اللص والكلاب» لكمال الشيخ عام 1963 لتتوالي في «الطريق» لحسام الدين مصطفي و«ميرامار» 1969 لكمال الشيخ أيضا، واخيرا قصة كتبها لها خصيصا للسينما يعنوان «ذات الوجهين» ليصبح مجموع ماقدمته شادية لمحفوظ 5 شخصيات مع 3 مخرجين ينتمون لمدارس سينمائية مختلفة..
ورغم اختلاف المخرجين وتنوع الروايات يظل هذا الخيط المشدود بين الأديب والممثلة التي قال عنها محفوظ بعد زقاق المدق «شادية جعلتني أشاهد (حميدة) على الشاشة.. لقد كنت أشعر بكل خلجة من خلجات حميدة متجسدة أمامي، على الرغم من تخوفي الشديد من قدرتها على تجسيد الدور عند ترشيحها له».
وأضاف: «شعرت لأول مرة أن الشخصية التي رسمتها على الورق نجحت في الخروج منه وأصبحت شخصية حقيقية من لحم ودم تتحرك أمامي على الشاشة، وكانت (حميدة) في «زقاق المدق» صورة لقدرة فائقة لا أتصور غيرها قادرا على الإتيان بها».
وفي هذا الفيلم الذي يرصد الواقع المصرى خلال الحرب العالمية الثانية نري حميدة المتمردة الجانحة يتيمة ممتلئة بالغرور والطموح والجرأة في مواجهة الامور الصعبة، وصفها نجيب محفوظ بانها تتعمد ابرازا مفاتن خطوط جسدها المستديرة لتستر عيوب ملابسها الفقير وهي كما يقول غالي شكري.. لم يعرف الحب طريقا لقلبها، هى تعشق المال .. المال فقط … هو القوة وهو النفوذ.. كل شئ.. وعندما فاتحها عباس الحلو فى شأن الزواج لم تغلق الباب فى وجهه، فهو الوحيد المناسب لها على الاقل مرحليا، قبل ان تلتقى بالقواد وتسلك طريقها البائس .. شخصية ادتها شادية بنفس المهارة والفهم ولم تغفل البعد النفسي لها .. تاملها وهي تمضغ اللبان، وتتمايل في مشيتها، تخرج الكلمات من فمها بميوعة مصطنعة، وتغني في الكباريه بإفتعال المحترفات وسط سلوك متمرد يسعي للوصول باي ثمن.. حتي تلقي حتفها.
في الرواية الثانية لشادية مع نجيب محفوظ «اللص والكلاب» نري شخصية (نور) امرأة تمتهن الدعارة وتقدم الدعم والعون لسعيد مهران إلى حد المخاطرة بحياتها، فهي الخلاص الآمن لسعيد قبل أن تصبح عاملا معاكسا بغيابها الذي عجل بنهايته، انها الواحة التي تمنحه فيضانا من الرحمة والحب والامان.. ولذا منحته كل شيء وحمته من الشرطة ومن الرغبة في الانتقام ومن نفسه، ولم يقدم لها شيئا في المقابل .. هنا لم نري عاهرة تقليدية علي نحو حسي معتاد وإنما نحن بصدد إمرأة أحبت وهي مستعدة للتضحية حتي بحياتها مقابل إسعاد الرجل الذي ملأ عليها كل حواسها.. هي ضعيفة نعم.. مستسلمة لظروفها ربما.. لكنها في النهاية ضحية لمجتمع يحاصره العفن وترتع فيه الرذيلة.. نموذج مختلف لحميدة المتمردة القاسية الطموحة، ولكنها تبقي بمثابة النور مثل (اسمها) للحبيب الذي ضل الطريق.
وحين نصل لشادية في فيلم «الطريق» نراها تشبه حميدة من حيث العمق فهي جامحة، مثيرة وطموحة أيضا، إنها (كريمة) حتي في الجنس ناضجة، جميلة، متزوجة من صاحب فندق عجوز، تأملها وهي تحيك بعض الثياب علي سلم الفندق لحظة وصول صابر الممتلأ بالشباب والحيوية وكيف تتفحصه بطرف عينها وهو يصعد سلم الفندق قبل ان تستدير بحسرة ناحية الزوج العجوز الذي يسعل بشدة ويكاد تخرج انفاسه خلف مكتب الاستقبال .. مزيج من الحسرة الذي يمهد لرغبة جامحة بعد ذلك .. إنها الانثي الذكية التي تعرف متي تمنح ومتي تتمنع حتي تدفع الفريسة الذي ظن انه ذئب إلى قتل زوجها العجوز.. وكإسلوب شادية المعتاد في الاداء سوف نراها تستخدم نظرات عينيها بكل الاشكال والاوضاع دون إنفعالات جسدية مبالغة لتوصيل المطلوب.. نظرات تلغرافية وأداء رصين يتغلغل كالسحر.. وهكذا قادت صابر لمصيره ومصيرها التراجيدي في إطار لعبة محفوظ القدرية الوجودية التي تشبه إسم روايته «عبث الاقدار».
اما شخصية (زهرة) في فيلم «ميرامار» فهي الفتاة التي جاءت إلى الإسكندرية هاربه من بلدتها لرفضها الزواج من عجوز غني ضغطت عليها اسرتها للزواج منه، ولكن زهرة الشخصية القوية وصاحبة الإرادة رفضت ذلك وهربت إلى الأسكندريه وعاشت في بنسيون ميرامار ..حيث يتصارع عليها نزلاء «البنسيون» الخمسة.. انها نموذج نسائي مشدود إلى الإيجاب رغم قتامة الواقع الاجتماعي، وتقلص مساحات الحراك الاجتماعي وقد حاولت شادية، بكل طاقتها، أن تحافظ على التوازن بين وضعها البسيط كعاملة فى البنسيون من ناحية، وفى ذات الوقت، الارتباط بالحلم الكلاسيكي في الإستقرار وربما الحب ولكن دون ان تفقد كرامتها وطموحها في التعلم السريع .. ان (زهرة) كما في الفيلم وقبله الرواية رمزا فهي زهرة مصرية متطلعة للتفتح ومشبعة بالقيم التراثية مع تطلع لمنجزات ثورية حقيقية في هذا الزمن، لايحكمها النفاق والإنتهازية، وقد بحثت في البنسيون عن الحب والتعليم والنظافة والأمل، ولكنها بدأت تصطدم تدريجيا بشخصيات واقع بائس .. هنا نلمح شكلا أخر لإمرأة جادة.. محترمة.. غير عابثة.. طموحة في حدود القيم والفضيلة .. وهي في ادائها هادئة كالبركان الذي ينتظر اللحظة المناسبة ليلقن من حوله الدروس والعبر.
وبدوره قال عنها نجيب محفوظ أن «شادية أكثر الفنانات اللاتي نجحن في تقديم روح الشخصيات التي كتبتها في الروايات على الشاشة الكبيرة».
وأضاف: «هي كذلك أيضا في غير أعمالي فقد رأيتها في بداياتها في دور الأم المطحونة المضحية في فيلم «المرأة المجهولة» وتصورت أن بمقدورها الحصول على جائزة الأوسكار العالمية في التمثيل لو تقدمت إليها».
وربما تكون شادية هي الوحيدة التي قال عنها محفوظ في حوار إذاعي: «شادية استطاعت أن تعطي سطوري في رواياتي لحما ودما وشكلا مميزا لا أجد ما يفوقه في نقل الصورة من البنيان الأدبي إلى الشكل السينمائي».
وربما لهذا السبب كتب لها فيلم بعنوان «ذات الوجهين» خصيصا للسينما واخرجه حسام الدين مصطفي عام 1973 وتقدم فيه شادية شخصية كريمة تعيش مع زوجها قدري وابنتها الهام حياة سعيدة ومستقرة، ولكنها في الايام القمرية تتبدل شخصيتها فتتحول الي شخصية بدوية بسبب محاولة رجل اغتصابها في ليلة قمرية .. والفيلم من النوع التجاري الذي لم يحقق نجاحا رغم مناقشته لموضوع ازدواج الشخصية ذو البعد النفسي المركب، ولكنه يكشف عن اعجاب نجيب محفوظ الشديد بشادية الذي أوقعه في هوي ادائها التمثيلي من اول مشهد مثلما وقعت هي في هوي سطور رواياته من أول صفحة.