ضمن أسبوعي المخرجين بفينيسيا
فينيسيا ـ «سينماتوغراف»: د. أمل الجمل
كعادته بدأ مهرجان فينيسيا السينمائي فعالياته مبكرا قبل الافتتاح بيوم واحد إذ عرض ثمانية أفلام منها ثلاثة لأورسون ويلز ضمن قسم الكلاسيكات، وخمسة أفلام ضمن قسم «أيام فينيسيا» الذي يتضمن اثنى عشر فيلما والذي يوزاي أسبوعي المخرجين في مهرجان كان، اثنين منها – «شتاء مبكر» و«ذكرى المياه» يدوران حول فشل العلاقات الزوجية ومشاكلها وإن اختلفت التفاصيل التي لا تخلو من مشاعر الفقدان والغيرة والشك ووحدة الإنسان المعاصر.
في «شتاء مبكر» إنتاج بريطاني فرنسي مشترك سيناريو وإخراج مايكل راو – حاز فيلمه الروائي الأول على جائزة الكاميرا الذهبية من مهرجان كان – تدور الأحداث في أجواء ثلجية، ماديا ورمزيا، حول الزوج الكندي ديفيد – الممثل بول دوسيه – البالغ من العمر خمسين عاما ويعمل في دار للمسنين ساعات طويلة ليوفر سبل الرفاهية لزوجته وطفليه، وأحيانا يعمل ورديتين فينظف المكان ويُزينه ويهتم برقة وعطف بالمسنين الذين تخلى عنهم أفراد عائلاتهم فيعيش معهم لحظاتهم الأخيرة جالسا إلى جوارهم ليمنحهم بعض السكينة أثناء خروج الروح من الجسد، وكأن هذه الوظيفه بمثابة جرس الإنذار اليومي أنه يتراجع ببطء خصوصا في علاقته بزوجته الشابة مايا – الممثلة سوزان كليمون – التي لا تترك هاتفها الخلوي من يديها والممتصة في عالم الإنترنت لتبني شبكة اجتماعية تعوض بها عزلتها عن جيران لا تجمعها بهم لغة مشتركة للتواصل، لكنها في نفس الوقت تصبح وكأنها على جزيرة آخرى بعيدا عن زوجها العاجز عن التواصل معها من دون أن يكون سبب ذلك هو الفارق العمري أو اختلاف الأجيال، فالزوج رغم إخلاصه وتفانيه لا يضع نفسه مكانها أو يشعر بأحاسيسها ليعيدها إلى عالمه مرة ثانية، ربما لذلك لم يعد قادراً على إشباع رغباتها الجسدية والمادية رغم أنه لا يدخر وسعا لتحقيق أمنياته ورغباته هو، مبررا ذلك بأنها غير مكلفة، مما يزيد الفجوة بينهما. العلاقة بينهما أيضاً تحمل ثقل أعباء وأشباح من الماضي – يشي بها السيناريو من دون تصريح مباشر – عن طفلته التي ربما تخلى عنها من زواج سابق أو الحادث الذي تسبب به في انهاء حياة إنسان لديه عائلة، وعن علاقة حب بين مايا – المهاجرة الروسية البعيدة عن عائلتها – وبين رجل تخلت هى عنه لأنه لم يكن ينوي الزواج والإنجاب.
إضافة إلى التوترات الكامنة تحت السطح أو المتفجرة أحياناً لتكشف قدرا من الكراهية، أيضاً لا يخلو الفيلم من مشهد نقدي على لسان إحدى المسنات – أستاذة جامعية متقاعدة – لمن يملكون الأموال وينفقون على الدراسات الأكاديمية والبحوث العلمية فيدعمون طلاب الماجستير والدكتوراة، لأنهم هم الذين يتحكمون في أنواع البحوث التي تُجرى ويحددون أي من الطلاب سيستمر.
أما شريط «ذكرى المياه» للمخرج والكاتب والمنتج الأسباني ماتياس بايز، الذي قدم بتوقيعه نحو تسعة أفلام نال عنها أحد عشر جائزة إلى جانب ترشيحات آخرى، فيذكرنا بفيلم «المسيخ الدجال» للمخرج الدانماركي لارس فون ترير – مع اختلافات جوهرية بالطبع – إذ يتخذ من موت الطفل تكئة لشعور الأم بالذنب والغرق في الذكريات التي تأخذ الإنسان من حاضره وتسرق منه مستقبله بعد أن تكشف هشاشته وضعفه ووحدته الشديدة.
في «ذكرى المياه» لا نرى الطفل ولا نرى حتى صوره أو أي شيء من حادث الغرق في حمامة السباحة، لكننا نعيش تلك المأساة بتفاصيلها أكثر من خلال مشاعر الأب المتماسك القادر على حبس دموعه رغم الألم المنغرس في نسيج ملامحه، والقادر على تجسيد الشعور بالوحدة والقلق والغضب وخيبة الأمل، وعدم اليقين، والأمل، والفرح والحب والحسرة، سواء من خلال علاقته بأبيه المسن الوحيد، أو في علاقته بزوجته في مختلف حالاته من حب وغيرة وشك وغضب، أو في علاقته بكلبه وبعملائه، وذلك بعد أن يتسبب الموت المفاجيء للصبي الصغير في الفراق بين الزوجين العاشقين تحت إصرار الزوجة بالابتعاد لأن القرب من شريكها أصبح بمثابة التذكار المتواصل المؤلم لها إذ ترى فيه طفلها كلما نظرت إليه، فتقرر أن تهجره بعيدا حتى تلتئم جراحها، فهل حقاً الحب والتضامن بين الشريكين ليسا كافيين للتغلب على المأساة التي مست حياتهما؟! وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تورطت في علاقة جديدة؟!
اللافت أنه في كلا الفيلمين «شتاء مبكر» و«ذكرى المياه» أن شخصية الرجل قد تم رسمها بمهارة – كتبها المخرج في كل عمل – وكأن الرجل كان موضوعا تحت مجهر دقيق فجاءت التفاصيل معبرة والبطلين منحا أدوراهما صدقاً على عكس شخصية الزوجتين سواء فيما يتعلق بتفاصيل رسم الشخصية وتطورها أو فيما يتعلق بالأداء إذ كان يتوراى أمام قوة أداء الأزواج. مع ذلك يظل سيناريو «شتاء مبكر» أكثر إحكاما على المستوى الفني من «ذكرى المياه» خصوصا فيما يتعلق بشخصية الزوجة في الأخير إذ يبدو اصرارها على الابتعاد عن زوجها غير مقنع دراميا وعلى الأخص في ظل التبدل في مشاعرها والعودة للحزن بعد أن عاشت ليلة سعيدة مع زوجها، مثلما بدا الفيلم وكأنه يحمل أكثر من نهاية، فبعد أن يشعر المتلقي أنه ينتهي سرعان ما يجده يبدأ من جديد ليختتم بالفراق وكأن المخرج لا يريد أن يُنهي الفيلم بنهاية سعيدة، بينما ينجح مايكل رو في أن يقدم نهاية تشي بأن الزوجين على وشك تسوية خلافتهما بأسلوب أكثر منطقية عندما يعود الزوج إلى البيت حتى وإن كان في حالة بائسة لكن ملامحه تشي بقدرته على الغفران.