«سينماتوغراف» ـ محمود درويش
فيما كانت السينما المصرية، عقب الحرب العالمية الثانية، تبحث عن بطل شعبي جديد يرضي الجمهور الذي تغيرت ذائقته، ظهر شكوكو ليصبح هو النموذج الأمثل لبطل سينمائى صنعه جمهور تلك الحقبة والذي كانت غالبيته من الطبقات الشعبية.. هكذا انتقل محمود ابراهيم اسماعيل موسى، الشهير بـ محمود شكوكو، من النجارة مهنته الأساسية الى التمثيل والغناء.
شكوكو المولود في أول مايو 1912 باحدى حواري الجمالية بالقاهرة، وجد فيه القائمون على صناعة السينما ضالتهم، وكان قد بدأ حياته الفنية كمطرب في الأفراح والملاهي يقوم بتقليد الفنانين ويغني لمحمد عبد الوهاب ومحمد عبد المطلب ثم بدأت شهرته وشعبيته تزداد يوما بعد يوم بعد أن اقتحم مجال التمثيل والمنولوج، وجاء اكتشافه سينمائيا على يد المخرج نيازى مصطفى فى فيلمين متتاليين خلال عام واحد ظهرا فى نوفمبر وديسمبر1944، حينما كانت الحرب العالمية الثانية تلملم أوراقها استعداد لمشهد النهاية، والفيلمان هما: «حسن وحسن» و«شارع محمد على» فى توليفة تكاد تكون واحدة فى الفيلمين حيث المطرب محمد الكحلاوى فى الأول والمطرب عبد الغنى السيد فى الثانى، بينما الراقصة بالفيلمين واحدة هى حورية محمد، وهو ماتكرر بشئ من التعديل فى الفيلم الثالث لشكوكو، وهو «أحب بلدى» من إخراج حسين فوزى حيث أستبدل الشاب النبيل أنور وجدي بالمطرب، بينما تم الإبقاء على الراقصة فى شخص تحية كاريوكا وهو نموذج آخر للتوليفات التجارية الناجحة، أو الوجبات السينمائية سابقة التجهيز التى كانت سائدة فى تلك الفترة.
عنتر ولبلب
ورغم تقديمه العديد من الأفلام، إلا أن فيلمه «عنتر ولبلب» 1952 يظل الأكثر شهرة حيث كان هو البطل الشعبي الذي يكسب تعاطف الجمهور ضد الشرير لبلب. وشاركه البطولة سراج منير وعبدالفتاح القصري وعبدالوارث عسر وحورية حسن.
ولهذا الفيلم قصة، فبعد أسابيع قليلة من بداية عرضه تحت اسم «شمشمون ولبلب» تم سحبه من دور السينما دون سبب معروف، ليختفى فى ظروف غامضة رغم اقبال الجمهور عليه بشكل كبير، ثم عاد ليعرض بعدها بستة أشهر باسم جديد «عنتر ولبلب»، وربما لاحظ الكثيرون أن اسم «عنتر» جاء بصوت يخالف صوت الممثلين فعملية التوليف الصوتى به واضحة جداً، فقد تعّرض الفيلم لعملية مونتاج جديدة لشريط الصوت شملت معظمه لحذف اسم «شمشون»، كلما ورد على لسان إحدى الشخصيات واستبداله باسم «عنتر» بصوت يختلف فى نبراته وطبقته ودرجة تطابقه مع حركة الشفاة عن أصوات الممثلين الذين يرد الصوت على ألسنتهم، ومن بينهم أصحاب أصوات مميَّزة مثل عبد الوارث عسر، وشكوكو، وهو ما أثار شكوكاً فى أن سبب سحب الفيلم من دور العرض لم يكن يتعلَق فقط بتناوله للصراع الوطنى فى مصر، بين المطالبين بتوقف المفاوضات، وبجلاء الإنجليز عن مصر، وهى الشعارات التى كانت سائدة آنذاك بين صفوف الحركة الوطنية المصرية، والتى ارتفعت بقوة خلال المد الوطنى الذى أعقب إلغاء معاهدة 1936، لكنها كانت تتعلَّق كذلك بإطلاق اسم «شمشون»، وهو أحد قضاة بنى إسرائيل وتصويره فى صورة الرجل الشرير الذى يغتصب أرض غيره، ويفسد حياة أصحاب الأرض الأصليين، وهو ما يعنى أن الفيلم- باسمه الأصلى- كان يحاول أن يربط بين القضيتين الوطنيتين المصرية والفلسطينية، وأن يوجه للنشطاء على الصعيدين المصرى والفلسطينى رسالة خلاصتها: «أن الضعف ليس مبرراً للنكوص عن استرداد الحقوق، وأننا إذا لم نكن نملك القوة، فباستطاعتنا أن نستخدم الذكاء لهزيمة عدونا»، لذلك تم تغيير عنوانه من قاضى إسرائيل شمشون إلى بطل العرب عنتر.
شارك شكوكو في الكثير من أفلام الأبيض والأسود، كما مثل في بعض الأفلام الملونة في أواخر أيامه بأدوار ثانوية. وارتبط بإسماعيل ياسين، حيث اشترك معه كثنائي مونولوجست، وكون فرقة خاصة به، ولا زال الكثير من مونولوجاته باقية، كما اشتهر بمشاركته الفنانة ليلى مراد فى استعراض «اللي يقدر على قلبي» في فيلم «عنبر» إلى جانب أنور وجدي اسماعيل ياسين وعزيز عثمان والياس مؤدب، وهو من كلمات حسين السيد وتلحين محمدعبدالوهاب.
تماثيل شكوكو
واشتهر شكوكو بالجلباب البلدي والطاقية الطويلة التي يضعها على رأسه وهو يغني ويمثل. ومن شدة اعجاب أحد النحاتين به، صنع له تمثالا من الصلصال وعرضه للبيع، ومن هنا انتشرت تماثيل شكوكو لدرجة أن صناع الحلوى أصبحوا يصنعون عروسة المولد والحصان والفارس كلها من الحلوى بدلا من الجبس لتباع في الموالد والأعياد، بعد أن سيطرت تماثيل شكوكو بين الجمهور.
كان «محمود شكوكو» يخجل من نفسه لأنه لا يقرأ ولا يكتب بعد أن اقتحم مجال الفن، لكن دفعه ذكاؤه الى أن يعلم نفسه بنفسه، فكان يسير في الشارع وعيناه على كل ما هو مكتوب على واجهات المتاجر واللافتات، وكان يدعو المارة ليقرأوا له ما هو مكتوب وكأنه يصورها في ذاكرته، وبالتالي بدأ يحفظ شكل الكلمات، وكان يحرص على شراء مجلة «البعكوكة» ذائعة الصيت في ذلك الوقت، ويطلب من البعض أن يقرأها له ويحاول تقليد ما هو مكتوب حتى تعلم القراءة والكتابة وبدأ يحفظ بعض الكلمات الانكليزية والفرنسية التي كانت تتردد في تلك الأيام.
نجم الجماهير
التقى شكوكو في تلك الفترة بالفنان علي الكسار الذي أعجب به واختاره ليقدم المنولوجات بين فصول المسرحية، ولاحظ تفاعل الجمهور معه واعجابهم به فرفع أجره ومن خلال فرقة على الكسار تعرف شكوكو على عدد كبير من المؤلفين والملحنين وابتسم له الحظ عندما فتحت له الاذاعة المصرية أبوابها بفضل كروان الاذاعة محمد فتحي، ولحسن حظ شكوكو أن الاذاعة كانت ستنقل حفلا على الهواء من نادي الزمالك «المختلط في ذلك الوقت» بمناسبة عيد شم النسيم فاختاره الاذاعى محمد فتحي ليشارك في الحفل وتسمعه الجماهير في مصر من خلال الراديو، ويسمعه الموجودون داخل حديقة النادي.
وبعد أن انتهى من القاء مونولوجاته الفكاهية، هتف الحاضرون جميعا «عايزين شكوكو… عايزين شكوكو» فخرج اليهم محمد فتحي ووعدهم بأن يعيد اليهم شكوكو مرة أخرى بعد المطرب الذي صعد الى خشبة المسرح، وما ان انتهى من وصلته الغنائية حتى هتفت الجماهير مرة أخرى «عايزين شكوكو… عايزين شكوكو»، واضطر محمد فتحي أن يعيده ثانية الى المسرح ليغني ويلقي المونولوجات، وكانت أول مرة يظهر فيها مطرب أومونولوجست مرتين على المسرح ويغني في الاذاعة في اليوم نفسه.
وبالرغم من كل هذا النجاح لم يترك شكوكو مهنته الأصلية، مهنة أجداده وهي النجارة وصناعة الموبيليا، وانفصل عن والده وافتتح لنفسه ورشة مستقلة في منطقة الرويعي – ما بين القلعة والعتبة بشارع محمد علي – واشتهرت منتجاته التي كانت تباع في أكبر المتاجر في القاهرة مثل شيكوريل وأوريكو وسمعان وصيدناوي حتى انه هو الذي قام بنفسه بتصنيع موبيليا شقته عند زواجه من أم سلطان.
وفي عام 1946، كون محمود شكوكو فرقة استعراضية باسمه ضمت عبد العزيز محمود، وتحية كاريوكا وسميحة توفيق وقدمت عروضها على مسرح حديقة الأزبكية بالقاهرة. كان شكوكو شغوفا بفن العرائس وخصوصا بعد انتشار تماثيله التي تباع في كل مكان وينادى عليها «شكوكو بقزازة».. فقرر أن يحول نشاطه من الفن الاستعراضي الى فن العرائس، خاصة وأنه نجار ماهر فكان يقوم بتصنيع العرائس الخشبية وقدم بعض مسرحيات العرائس مثل «السندباد البلدي» «الكونت دي مونت شكوكو» وهما من تلحين محمود الشريف وسيد مكاوي ومن اخراج صلاح السقا، وكان يقوم بالتمثيل فيهما السيد راضي ويوسف شعبان وحمدي أحمد وأيضا المخرج الراحل صلاح السقا والد الفنان أحمد السقا.
وبالرغم من أن مسرح محمود شكوكو للعرائس توقف نشاطه أواخر العام 1963 لضيق الأحوال المادية، الا أنه كان البداية الحقيقية لانشاء مسرح القاهرة للعرائس، والتصق اسم شكوكو بشخصية الأراجوز التي أكسبته شهرة واسعة.
ويحسب له أنه أحيا فن الأراجوز الذي كان قد اندثر لدرجة أنه غنى للأراجوز أغنية «ع الأراجوز يا سلام سلم»، وكان يعاونه أحد أشهر فناني الأراجوز في مصر واسمه علي محمود، وطاف هو وشكوكو الكثير من بلدان أوروبا وأميركا اللاتينية بعرائس الأراجوز الخشبية واشتهر شكوكو بالطاقية والجلابية البلدي وأطلق عليه البعض «شارلي شابلن العرب».
وقد ظهر محمود شكوكو على المسرح طيلة حياته يرتدى الجلباب البلدي والطرطور واصبحت سمة مميزة لشخصيتة وكانت المرة الأولى على مسرح البوسفور في باب الحديد. حتى يوم تكريمه من الرئيس الراحل أنور السادات في عيد العلم والفن ذهب الى الحفل مرتديا الجلباب البلدي تكريما لتاريخه الحافل في جميع ألوان الفنون وبخاصة السينما التي قدم لها الكثير من الافلام.
وكان آخر فيلم مثل فيه محمود شكوكو هو فيلم «شلة الأنس» عام 1976 بمشاركة هدى سلطان وعزت العلايلى ووحيد سيف ومحمود التونى ومحمد رضا وشفيق جلال ونعيمة الصغير ونادية الكيلانى وعماد حمدى ونور الشريف ومن اخراج يحيى العلمى، وفى أواخر أيام حياته اشتد عليه المرض حتى رحل عن عالمنا فى 21 فبراير 1985.