د. أمل الجمل تكتب لـ«سينماتوغراف»:
من الأقوال الشائعة – والتي تقترب من الحقيقة إلى حد كبير – في الوسط السينمائي أن المخرجين الكبار، وربما بعض الكتاب الكبار أيضاً، إلى جانب المنتجين ذوي النفوذ بالطبع، يظهر الدور الكبير لمكانتهم ووضعهم الخاص عندما تتعامل معهم الرقابة. وتلك المقولة ليست حديثة العهد ولكنها ترجع لسنوات طويلة مضت، وقد طُرحت ذات يوم عندما هاجم النقاد والصحفيون فيلم «حمام الملاطيلي» 1972 للمخرج الراحل صلاح أبو سيف، إذا اعتبروا أن الرقابة تساهلت معه وسمحت بعرض الفيلم بسبب اسمه ومكانته. لكن تلك الجملة لم تصمد طويلاً فمخاوف وتصرفات الرقابة التالية لرد فعل النقاد – والتي سوف نسردها في متن النص – أكدت أن الاسم الكبير وحده لا يكفي دائماً، وهو الأمر الذي تكرر مرات عدة فيما بعد مع رائد الواقعية في السينما المصرية.
خاض صلاح أبو سيف تجربة طويلة مع الرقابة منذ بدأ الإخراج في عام 1945، مرت في بعض الأفلام بسلام وهدوء رغم الرفض أحياناً منذ بداية السيناريو مثلما حدث مع مشروع «القاهرة الجديدة» أو «القاهرة 30» والذي ظلت ترفضه لسنوات تقترب من العشرين، وفي أحيان أخرى اقتصر الأمر على التدخل بالحذف والقطع مباشرة، وفي مرات ثالثة فوضت الرقابة تشكيل لجنة من مجلس الشعب للبت في أمر العمل.
بدأت رحلة تدخل الرقابة في أفلام صلاح أبو سيف منذ فترة مبكرة جداً. فمثلاً في عام 1945 رفضوا له سيناريو «القاهرة الجديدة» وفي عام 1952 اشترطت الرقابة وضع عبارة «القناعة كنز لا يفنى» في أحد المشاهد لتمرير فيلم «الأسطى حسن». وفي عام 1954 اشترطت وضع جُملة: «قديماً.. في أقاصي الصعيد» في بداية فيلم «الوحش» وذلك لإجازته رقابياً. وفيما يلي نلقي الضوء على بعض محطات تلك الرحلة مع الرقابة.
شباب امرأة والقاهرة الجديدة
عندما فكر صناع فيلم «شباب امرأة» عام 1956 في إرسال الفيلم إلى مهرجان كان للمشاركة ضمن فعالياته اعترضت الرقابة بحجة أنه يُسيء إلى مصر لما تضمنه من مشاهد تكشف عن الفقر مثل «السرجة»، ووصل الأمر أن الرئيس عبد الناصر أمر بتشكيل لجنة هي التي أفرجت عن الفيلم.. وكان من ضمن أعضاء اللجنة الدكتور حسين فوزي الذي لم يعجبه نهاية الفيلم بموت البطلة – التي جسدت دورها الفنانة العملاقة تحية كاريوكا – وكأنه عقاب لها على علاقتها بالشاب، وكان رأيه “أنها لا تستحق هذه النهاية المأساوية، بينما كان لها الفضل في تعليمه جانبا مما يجهله عن الحياة.”
أما فيلمه «القاهرة 30» المأخوذ عن قصة نجيب محفوظ – والتي نُشرت باسم «القاهرة الجديدة» ثم أُعيد طبعها تحت عنوان «فضيحة في القاهرة» تفادياً للرقابة – فله حكاية امتدت لسنوات فمنذ وقوع صلاح أبو سيف في غرام رواية «القاهرة الجديدة» عندما قرأها عام 1945 قرر إخراجها سينمائيا لكن الرقابة رفضتها. وقتها وصفها أحد رجال العهد البائد بأنها «صرخة طائر تُنذر بالخطر» على حد وصف نجيب محفوظ. تكرر هذا الرفض أربع مرات، بسبب بشاعة تصرف الشخصيات ولأن الرواية تتحدث عن عفونة الوضع الاجتماعي وتُنذر بانهياره. في المرة الخامسة عام 1964 وافقت عليها الرقابة، أي بعد عشرين سنةً من صدور الرواية. وعن هذه التجربة يقول أبو سيف: كل سنتين ثلاثة كنت أعيد تقديم ملخص رواية «القاهرة الجديدة» للرقابة، وفي كل مرة ترفضها، وحدث أن جاء نجيب محفوظ رئيسا للرقابة وتصورت أنها فرصتي لتمرير الفيلم لكني فوجئت برفض نجيب محفوظ أيضاً للفيلم، وعندما سألته عن السبب قال إن أخلاقه لا تسمح له بالموافقة على موضوع يخصه سبق الاعتراض عليه من الرقابة، واقتنعت – هكذا يقول صلاح أبو سيف – لكني واصلت بعده تقديم الموضوع للرقابة، وعندما تولي عبد الرحيم سرور الرقابة سألني عن سبب الرفض السابق، فذكرت له أن الاعتراض بسبب التعرض لشخصية وزير يقيم علاقة مع زوجة موظف في مكتبه، ففوجئت بموافقته وسعدت بها.
القضية 68 وحكاية وأد فيلم
يحكي صلاح أبو سيف عن تجربته القاسية في «القضية 68» فيقول: تعرض الفيلم للمصادرة السياسية قبل عرضه، أنقذه من المصادرة تدخل الكاتب الاشتراكي الكبير لطفي الخولي، وكان هو صاحب القصة.. وعندما عرض الفيلم فوجئت في الحفلة الصباحية بمجموعة من المشاهدين يهتفون ضد الفيلم، وفي حفل الافتتاح مساء زاد الشغب، وسمع ابني محمد حوارا بين اثنين فهم منهما التآمر لإحداث شغب فاشتبك معهما، لكننا حاولنا تهدئة الموقف، وفهمت أن الحزب غير راض عن الفيلم وقد دبر مع البوليس هذا الشغب، لمنع عرض الفيلم… لكن عندما حاول هاشم النحاس نقد وتحليل شخصيات الفيلم لتفسير لماذا انفض الجمهور عن الفيلم في دور العرض وذلك في اعتقاده لأن «فريق الشر كان أخف ظلا من فريق الخير بالعمل مما جعل المتفرج غير قادر على التعاطف معه»، لكن صلاح أبو سيف أصر بشدة على أن البوليس هو الذي أفسد العرض. وعندما قاطعه النحاس مؤكدا أن «النقاد أيضاً وقتها لم يعجبهم الفيلم» قال أبو سيف: لا.. المهم هو موقف البوليس في مصر وقد قوبل الفيلم بالخارج بترحاب شديد في الجزائر والمغرب، كما عرض بعد ذلك في فرنسا ولقي إقبالا كبيرا.. لكن في مصر تم التعتيم عليه فلم يعرض عرضاً ثانيا ولم يعرض بالتليفزيون ولو مرة واحدة، لقد تم إلغاؤه.
وقد كتب الأستاذ الأمريكي ريموند وليم بيكر، كلية ويليامز تحت عنوان: «مصر في الأطياف- الأفلام والنظام السياسي» استهل بحثه بكلمات أبو سيف: «كانت السينما محاصرة برجال الشرطة ليلة العرض الأول… كانت الشرطة السرية منسلة بين صفوف المشاهدين، وبعد انتهاء العرض حاولت جاهدت أن تضربني.. أنا بشر.. كان كل يوم من أيام عرض الفيلم امتحانا قاسيا لي.. كان عندي الإحساس بأن أولادي هم الذين سيجري تحميلهم عبء أفعالي ».
يُذكر أن الفيلم عرض عام 1968 في أعقاب الهزيمة، لكن التفكير في انتاجه كان قبل نكسة 67. عرض الفيلم لمدة أسبوع واحد وبعدها رفع من السينما ولم يعرض أبدا، ثم عرض في لبنان 1970. اختاره الناقد اللبناني سمير نصري ضمن برنامج عن السينما المصرية، ثم عرض في باريس وهناك علق أحد الجزائريين قائلاً: «كيف تملك مصر من الجرأة ما يتيح إنتاج هذا الفيلم.. » وحضر أحد الفرنسيين إلى مصر لشراء حق العرض في فرنسا لكن الشركة رفضت بيعه بحجة الخوف من سوء استغلاله ضد مصر. وكان الفيلم يبدو وكأنه بمثابة محاول للإجابة عن تساؤل: «ما سبب هزيمة 1967؟ » وأثناء ذلك يتناول الفساد الذي ضرب الاتحاد الاشتراكي من الداخل. الفيلم مأخوذ عن مسرحية لطفي الخولي، لكن الفارق بينهما أن المسرحية تعالج التناقض بين القوانين، ومشكلة القوانين القديمة التي لم تعد تصلح لحياتنا المعاصرة، بينما يعالج شريط أبو سيف التناقض بين المبادئ الاشتراكية وبين مَنْ يطبقونها. عمد المخرج إلى توظيف العمارة في الفيلم كرمز للنظام القائم، إذ تتعرض للانهيار فيدب الخلاف بين أعضاء اللجنة، مجموعة منهم تقرر هدم العمارة وبناءها من جديد والمجموعة الثانية تنتصر لفكرة الترميم، ويقف الانتهازيون إلى جانب الترميم حفاظا على مصالحهم، وفي نهاية الفيلم تنهار العمارة.
حمام الملاطيلي 1973
فيلم «حمام الملاطيلي» مأخوذ عن رواية إسماعيل ولي الدين والتي منع طبعها وتوزيعها فترة من الزمن في مصر، ثم أعيد السماح بها لتتحول على يد صلاح أبو سيف إلى فيلم سينمائي يعالج بجرأة وصراحة أكثر العيوب الاجتماعية بعد نكسة 1967.
عندما كان صلاح أبو سيف يُسأل عن «حمام الملاطيلي» كان يبادر بأن النقاد كانوا أشد قسوة من الرقابة في التعامل مع هذا الفيلم: «فقد واجه العمل بعض الصعوبات الرقابية، ولما شاهدته لجنة من مجلس الشعب وصرحت بعرضه هاجمها بعض الصحفيين، كما لم يحظ الفيلم بتقدير النقاد، بل هاجموه بشده، وقد أثار الفيلم مخاوف الرقابة فراحت كل أسبوع تقطع منه».
شهد الفيلم انقساماً حاداً بين النقاد بسبب الجرأة في الموضوع والطرح، فالبعض هاجمه بضراوة والبعض الآخر دافع عنه، فمثلا كتب حسن إمام عمر مطالباً بمصادرة الفيلم، وتعجب من التصريح بتصديره في المرحلة الحاسمة التي تجتازها البلاد، وعبر عن دهشته وكيف تسرب الفيلم إلى الخارج وهو بهذه الصورة المؤذية، فالواجب يقضي بأن يعاد النظر فيه، وأن تُسحب النسخ التي صُدرت إلى البلاد العربية ليعلم الجميع أن مجتمع المواجهة الشاملة أكبر من أن يجامل مشهورا من أبنائه إذا خانه التوفيق.. أما إبراهيم الورداني: فكتب ينتقد اللجنة الخاصة من مجلس الشعب التي شاهدت الفيلم ولم تجد فيه ما يمنع عرضه على الجمهور، بل صرحت بعرضه كاملاً بلا أدنى قطع أو حذف.
رغم ما سبق لكن نزاهة الناقد السينمائي والمخرج هاشم النحاس جعلته يعترف أنه عندما شاهد الفيلم بعد فترة زمنية من الظرف التاريخي التي كانت مصر تمر به خرج بانطباع ومشاعر أفضل مما خرج بها في المرة الأولى 1972 حيث كان لايزال تحت الضغط النفسي للهزيمة، ولما كان الفيلم يُحلل أسبابها من فساد وتحلل اجتماعي، فقد غمره شعور بالإحباط والانقباض وقتها، لكن مشاهدة الفيلم بعد 73 جعلته يكتشف الكثير من مناطق القوة.
أما اللبناني سمير نصري فكتب مدافعا عن الفيلم كاشفاً تفاصيل الهجوم عليه، بأن الفيلم شاهدته الرقابة وسمحت بعرضه وتصديره للعراق ولبنان والأردن، وخرجت إحدى الصحف العربية تهاجم الفيلم وتصفه بأنه يسيء إلى مصر، فأوقف المسئولون المصريون الفيلم وقاموا بمصادرة أفيشاته من جميع شوارع العاصمة، كما قامت حملة في الصحف والمجلات في اليوم التالي تهاجم الفيلم ومخرجه، وطلب المخرج تحكيم لجنة من مجلس الشعب فأقرت اللجنة عرض الفيلم بعد العمل على تخفيف المشاهد الجنسية، وفي اليوم التالي حضر الوزير يوسف السباعي عرض الفيلم وحدد المشاهد التي يجب أن يتم حذفها ثم أجاز السماح بعرضه مرة ثانية، وقد سبق ذلك أن عُرض الفيلم على الرئيس أنور السادات في منزله بناء على طلبه.
مدرسة الجنس
كان صلاح أبو سيف على يقين بأن أخطر مشكلتين تواجهان المجتمع هي المشكلتان الجنسية والاقتصادية، ولذا نجد لهما دوما صدى في أفلامه بالطبع إن لم يكونا الأساس الجوهري الذي ينهض عليه البناء المعماري للعمل، ولذلك أيضاً قبل ما يقرب من30 سنة من رحيله، ظل يتقدم إلي الرقابة بسيناريو عنوانه «مدرسة الجنس»، ومرة ثانية لم يشفع اسم وتاريخ صلاح أبو سيف للسيناريو، فرفضته الرقابة،, واعتبرته عملا غير لائق، مناهضا للعادات والتقاليد.. وظل أبو سيف يتقدم بالسيناريو كلما تغير رئيس الرقابة، لكنه كان يتلقى نفس الرفض.. ورحل صلاح أبو سيف، وقرر ابنه محمد ابو سيف أن يتقدم بنفس العمل، فوافقت الرقابة دون تغيير. الشيء الوحيد الذي تغير في السيناريو هو عنوانه. أصبح «النعامة والطاووس».
المواطن مصري
للمواطن مصري حكاية أخرى مختلفة عن أفلام أبو سيف السابقة، فعندما قرأ رواية يوسف القعيد «يحدث في مصر الآن» وأعجبته اتفق على إخراجها مع المنتج حسين القلا، لكن الرقابة لم تسمح بها، وإن سمحت بها بعد ذلك وأنتجت فيلماً تحت عنوان «زيارة السيد الرئيس». فاقترح عليه حسين القلا رواية أخرى ليوسف القعيد وهى «الحرب في بر مصر» التي وافقت عليها الرقابة بعد أن أجريا عليها بعض التعديلات، وكتب لها السيناريو الراحل القدير محسن زايد. ويعترف أبو سيف أن بعض المسئولين في الجيش شاهدوا الفيلم نظرا لموضوعه الذي يتعلق بالجيش ولم يعترضوا عليه، وقالوا إن مثل تلك الحالات سبق أن وقعت في الجيش، أي أن يحل شخص محل شخص آخر في العسكرية بالتزوير، ولكنهم اكدوا أن هذا الأمر لم يعد يحدث الآن.