القاهرة ـ إلهام رحيم
احتفى صناع السينما المستقلة في مصر باختيار فيلم (ليل خارجي) للمخرج أحمد عبدالله للمشاركة في المسابقة الرسمية لـ مهرجان القاهرة السينمائي، الذي تبدأ فعاليته في الـ20 وحتى الـ29 من نوفمبر المقبل، لأنه مؤشر على انتصار هذا النوع من السينما التي لقيت تجاهلا أحيانا من قبل المنتجين ودور العرض، ومع تزايد احتمال اختيار فيلمين مستقلين في فروع مسابقات أخرى بالمهرجان، تبدو السينما المستقلة مقبلة على حالة زخم، قد تمكنها من تحقيق تقدّم تأخر كثيرا.
وشهدت السينما المستقلة اهتماما سابقا، مع ظهور أفلام مثل (ميكرفون) و(ديكور)، لكنه انطفأ سريعا، لأن مشهد الاحتفاء كان خادعا، ولم يعكس حقيقة الأزمة التي تعيشها تلك النوعية من الأفلام، بعد أن فشلت في جذب الجمهور والمنتجين لدعمها.
حكايات البسطاء
يراهن صناع الأفلام المستقلة على حضور المؤلف والمنتج محمد حفظي، رئيسا لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي حاليا، باعتباره أحد المهتمين والمشجعين لتلك الأفلام، لكن هؤلاء يتعاملون بمنطق الهروب من الواقع وأن الاختيار في المهرجان وكفى، دليل على النجاح، وتناسوا أن الحضور في السينما العامة وجذب الجمهور سمة أساسية لصناعة المجد الحقيقي.
ومن الإجحاف لحقوق السينمائيين المخلصين لفنهم تصوير الأمر وكأن مشاهدة أعداد قليلة للأفلام في الحجرات المغلقة أو حصولها على جوائز وشهادات تكريم في المهرجانات الدولية واقع مرضي، فهي كلها مبررات تخفي خذلانا يعاني منه الكثير من السينمائيين ممّن لم يجدوا من يهتم بهم بصدق وجدية ويمد جسور التواصل بينهم وبين الجمهور العريض الذي يمثل الوصول إليه الحلم الحقيقي.
والادعاء أن السينما المستقلة تسير في طريق مختلف قد يكون صحيحا، لأنها أكثر واقعية وأقل تكلفة ولا تخضع لضغوط المنتجين والنجوم، وهي سينما بلا قيود فنية كبيرة ولدى القائمين على صناعتها مساحة عالية من الحرية والإبداع الملموس، كل ذلك لا يعني أنها في تناقض مع السينما التجارية وأن هناك رغبة لسرقة الجمهور.
وقدّمت تلك السينما أنواعا فريدة من الأعمال امتازت بصدقها وقدرتها على سرد حكايات الناس “الغلابة” (البسطاء) وأوجاعهم بشكل ساهم في إقبال الجمهور الذي رأى فيها مرآة تعبر عنهم وتصف مشاكلهم وتشخص أوجاعهم الفعلية باقتدار.
كان الفيلم المصري “يوم الدين” للمخرج أبوبكر شوقي، والذي عرض ضمن المسابقة الرسمية في مهرجان كان السينمائي الدولي الأخير، خطوة مهمة، منحت دفقة معنوية لهذه الأفلام، وكشفت عن إمكانية انتشارها، ما يساعدها على الخروج من أروقة المهرجانات إلى الساحة العريضة من الجمهور.
ولفت شوقي إلى أن فيلمه الذي تطرق لمرض الجذام (فن بلا جمهور.. لا قيمة له، لأن رسالته موجهة إليهم”، وتمنى أن تشاهد مصر كلها فيلمه الأول “يوم الدين” لأنه صنع من أجلهم، مضيفا “فأهل مصر وأحوالهم قضيتي).
ويقول البعض من النقاد، إن السينما المستقلة ليست تجارية لأنها لا تقدّم مادة استهلاكية لجلب الضحك من الجمهور أو إثارة عواطفه، لكن هي المساحة التي تعكس حقيقة السينما كفن قائم بذاته يقدّم رؤية إبداعية مميزة وفكر غير تقليدي.
وتبدو هذه الصناعة أمام فرصة قوية للعثور على قاعدة جماهيرية، في ظل أوضاع السينما التجارية التي دخلت مرحلة خطيرة من الترهل، وباتت عاجزة عن جذب الجمهور ومهددة بخسائر مادية فادحة، وسط أوضاع اقتصادية قاسية تمر بها مصر وقد ألقت بظلالها على صناعة السينما وتراجع الإنتاج الذي بلغ العام الماضي خمسة عشر فيلما فقط، بعد أن كان قد وصل إلى أضعاف هذا الرقم في سنوات سابقة.
ولم يعد بمقدور المنتجين الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، تحمل المزيد من الخسائر، جراء ارتفاع أجور النجوم وقلة الإيرادات، ناهيك عن تزايد أعمال القرصنة الإلكترونية على الأفلام بعد ساعات من عرضها سينمائيا.
خيار واحد
تلقي هذه الأزمة بسلبياتها على صناعة السينما عموما، وتمثل في الوقت ذاته نافذة يمكن أن تطل منها السينما المستقلة على الجمهور العادي وتنتعش في دور العرض ليتعرف عليها تدريجيا، كما أنه يمكنها جذب قطاع مهم من الجمهور النوعي الباحث عن أعمال جيدة.
وقال تامر السعيد، مخرج فيلمي (آخر أيام المدينة) و(يوم الاثنين)، (المشاهدون في مصر يتعرضون لخدعة، إذ لا يعرفون شيئا عن وجود سينما وأفلام أخرى يمكن أن يشاهدوها في دور العرض، حيث لا يقدّم لهم إلاّ خيارا واحدا وهو الأفلام التجارية).
وأكد المخرج أحمد عبدالله، وهو واحد من أهم مخرجي السينما المستقلة، على فكرة خداع الجمهور عن طريق الترويج بأن أفلامهم المستقلة ليست في حاجة للجمهور، ويقول “ليس معنى أننا نريد تقديم فن حر وبلا قيود أننا نغرد خارج السرب، نحن جزء من صناعة السينما، لكن وفقا لشروطنا ونتمنى أن يدعم الجمهور خطواتنا عندما تتاح له فرصة مشاهدتنا والتعرف علينا بصورة أقرب”.
وأتيح للجمهور بالفعل خلال الأشهر القليلة الماضية التعرف عن قرب على ثلاث من أيقونات السينما المستقلة في مصر، وهن هبة يسري وآيتن الموجي ونادين خان، من خلال مسلسل “سابع جار” وقدّمن فيه رؤية مختلفة للمجتمع بلغة سهلة وشديدة القرب من الواقع، وكشف هذا العمل عن قدرة الفنانين المرتبطين بالسينما المستقلة على جذب الجمهور، إذا كان العمل جيدا ويتمتع بتسويق متميز.
ويشير ذلك إلى أن صناع السينما المستقلة يمتلكون أيضا أدوات فنية بسيطة وليست معقدة أو مركبة ويمكنهم بسهولة الالتصاق بالجمهور، لأن الكثير من أعمالهم تنقل معاناة الناس بصورة واقعية وصادقة وبلا رتوش، ولديهم الشجاعة لمحاولة تغيير الواقع والدخول أحيانا في مناطق محرمة مجتمعيا، ما يضفي جاذبية أكبر على أعمالهم.
ويميل عدد كبير من النقاد نحو التفاؤل بمستقبل السينما المستقلة، ويعتبرونها واعدة لمخرجين كبار عملوا بها، بعد أن أغوتهم بتجاربها المتميزة، وشارك في بعضها نجوم الأفلام التجارية بحثا عن مساحات مختلفة من العطاء الفني.
وتحمل هذه السينما اجتهادات وأفكارا تستحق ما هو أكثر من مجرد عرض في بعض قاعات صغيرة في مراكز ثقافية مصرية ومهرجانات دولية، ولا يوجد ما يمنع إجرائيا عرضها في دور سينما كبيرة، وتخضع لجميع القوانين التي تخضع لها الأفلام التجارية وتنال التصريحات الخاصة بها حظها قبل وأثناء التصوير.
وإذا مضى الاهتمام بها على المنوال الإيجابي، يمكن أن تزدهر، وتمنح السينما التجارية قبلة حياة تدفعها إلى المزيد من التجويد وسط القبول بعنصر المنافسة، الذي ينعكس عليهما معا، وهو نمط موجود في الكثير من دول العالم، والحديث عن تفوق أحدهما لا يعني نضوب أو تلاشي الآخر، فالتلازم مهمة أساسية للقائمين على صناعة السينما في مصر، كي تتمكن من معالجة أوجه الإخفاق الفني وتراكماته العديدة.