«سينماتوغراف» ـ محمود درويش
مع ارتفاع حدة التطرف والإرهاب في بقاع كثيرة حول العالم، وارتباط هذا الإرهاب، زورا وبهتانا، بالإسلام، ذلك الدين الحنيف الذي يدعو إلى الوسطية والتسامح، انتبه الجميع، لأول مرة، إلى الدور المهم الذي يلعبه رجال الدين، أو الدعاة، وحركات الإسلام السياسي في تفريخ الإرهاب والترويج لأفكار هدامة تحث على العنف ومقاومة الحكام ومحاربة أصحاب الديانات الأخرى، معتمدين على أفكار سلفية ووهابية سادت في حقبات من التاريخ، ودفعنا، ولازلنا، بسببها ثمنا غاليا.
وكانت هذه القلة من رجال الدين قد استغلت الفضاء المفتوح وظهور قنوات تلفزيونية دينية موجهة لتبث سمومها وسط جمهور مغيب وضع ثقته في أسماء بعينها ممن تصدوا للفتوى بغير علم ووجدوا آذانا صاغية لطرحهم الذي أثمر دماء وأشلاء وألصق بالإسلام، عن غير حق، صفات لم تكن يوما من ثوابته.
ومن هنا، فإنه أصبح للأدب والفن، بصفة عامة، دور كبير في فضح هؤلاء المرتزقة الذين احترفوا تجارة الدين، وتعريتهم وتفنيد آرائهم وإثبات زيفهم وخطرهم على الإسلام والمسلمين.
وقديما، أخذ الفنان حسين صدقي على عاتقه أن يظهر رجل الدين المسلم في أفضل صورة في عدة أفلام، واشتهر بتقديم الأعمال ذات الطابع الاجتماعي والتي تبث قيما ومبادئ عليا. ولعل صداقته بعدد من رجال الدين والأزهر الشريف هو ما دفعته لاستلهام تلك القصص السينمائية.
ويعد فيلم «المصري أفندي» من أشهر أفلام صدقي، والذي استوحاها من صديقه الشيخ محمود شلتوت؛ حيث ربطتهما صداقة قوية بحكم الجوار.
والفيلم يروي قصة شاب في مقتبل العُمر يسأم من ظروف الفقر والحاجة ويتمرد على السعادة التي وهبها له الله بالزوجة الصالحة والبنين، فتتغير ظروفه على نحو سريع ويرزق بالمال الوفير ولكنه يفقد أولاده واحدًا تلو الآخر، حتى يندم على فعله ويحاول تعويض ما فقده.
وأظهر حسين صدقي، أيضا، رجل الدين في صورة الرجل الصالح الورع المهتم بالدين والمحيطين بالمسجد الذي هو مسؤول عنه، كما في فيلم «الشيخ حسن»، والمعروف أيضا باسم «ليلة القدر»، وهو من تأليف وإخراج حسن صدقي عام 1954.
ويعد هذا الفيلم من الأفلام التى تعرضت للمشاكل مع الرقابة بسبب تناول زواج رجل دين مسلم سمح من مسيحية. وقد تم منع عرضه لفترة ثم عرض بعد ذلك ليبقي من الأفلام النادرة التي تناولت تلك العلاقة.
وفي الفيلم يحب الشيخ حسن لويزا المسيحية شقيقة أحد تلاميذه، لينتهي بزواجهما ضد مباركة أهلهما.
وقد لاقى هذا العمل، الذي عرض تحت اسم «ليلة القدر» اعتراض بعض المسيحيين والمسلمين من ذوى الثقافات العالية، فأمر اللواء «محمد نجيب»، رئيس الجمهورية وقتها، برفع الفيلم من جميع دور العرض، ثم قام «حسين صدقى» بتغيير اسم الفيلم من «ليلة القدر» إلى «الشيح حسن».
وفي نفس العام جسد يحيى شاهين شخصية الشيخ حسن أيضا في فيلم «جعلوني مجرما»، والذي يعمل على إرشاد صديقه بطل الفيلم فريد شوقي إلى الطريق المستقيم وإبعاده عن طريق الشر الذي يجد نفسه مدفوعا إليه دفعا. وقد كتب هذا الفيم فريد شوقي وأخرجه عاطف سالم عام 1954.
وقد كانت تلك صورة حقيقة للداعية الوسطي في عصر لم تكن قد ظهرت فيه فضائيات ولا أصحاب اجندات خاصة من تجار الدين.
وحديثا، التفت التليفزيون إلى هذا الأمر بتقديمه مسلسل «الداعية» الذي كتبه مدحت العدل وأخرجه محمد جمال العدل، ولعب بطولته هاني سلامة في دور داعية يقدم برامج بالقنوات الفضائية ليقدم للجمهور صورة عصرية للداعية الشاب المستنير الذي أخذ على عاتقه محاربة الأفكار الهدامة التي كان هو نفسه مؤمنا بها يوما ما. ورصد المسلسل كيف يمكن لداعية أن يؤمن بالفن الراقي وتأثيره ودوره في حياتنا من خلال قصه حب تجمعه بعازفه كمان بأوركسترا القاهرة السيمفوني.
وفي السينما، حاول فيلم «حسن ومرقص» الذي كتبه يوسف معاطي وأخرجه رامي إمام، ولعب بطولته كل من عادل إمام وعمر الشريف تقديم صورة سمحة للتعايش بين المسلمين والمسيحين من خلال اثنين من الدعاة، أحدهما مسلم والآخر مسيحي، وكيف أن الجمهور الساذج يمكن أن يؤمن برجل الدين ويرفعه إلى مرتبة عالية حتى ولو كان مزيفا، وذلك حين اضطر الداعيان إلى أن يعيش كل منهما حياة الآخر لأسباب أمنية.
وقريبا يعرض فيلم «مولانا» المأخوذ عن رواية للكاتب ابراهيم عيسى تحمل نفس الإسم، ويخرجه مجدي أحمد علي. وهو من بطولة عمرو سعد، ويشارك في بطولته كل من درة وبيومى فؤاد وأحمد مجدى وريهام حجاج وصبرى فواز ولطفي لبيب وإيمان العاصى وضيف شرف الفيلم أحمد راتب ومن إنتاج العدل جروب.
وتكتسب رواية «مولانا» أهمية قصوى لأنها تتعلق بالخطاب الدينى فى الوقت الحالى وتكشف كثيرا من الذين يسيئون لجوهر الاسلام الحنيف.
وتأتي أهمية الموضوع المطروح في هذه الرواية من كونه يتعرض لقضية حساسة باتت تهيمن على الواقع في البلدان العربية والاسلامية، وأمست تشكل ظاهرة ملفتة للاهتمام بعد أن استحوذت على مساحة كبيرة من الاعلام المرئي ومايشكله من تأثير كبير في توجيه الرأي العام، ألا وهي ظاهرة نجوم الفضائيات، من دعاة ومشايخ، الذين باتوا يلعبون دورا مؤثرا وخطيرا في مجريات الحياة الاجتماعية، عبر حضورهم الدائم والطاغي خلال فترات طويلة من البث، ومانتج عن ذلك بفعل فتاواهم وأحاديثهم التي تغيب سلطة العقل من تداعيات خطيرة أسقطت قطاعات واسعة ومتنوعة من المجتمع في بركة التطرف الديني والمذهبي، إضافة الى شيوع الفكر الغيبي والخرافات التي باتت اشبه بالمقدسات، وتحميل الانظمة السياسية الحاكمة مسؤولية ذلك، لأنها وفرت بيئة متخلفة ملائمة لشيوع هذه الظاهرة، من بعد أن غيبت عن برامجها، الخطط والسياسات التنموية التي يمكن من خلالها أن يرتقي مستوى الوعي والعيش الكريم لمواطنيها.
وكانت الرواية التى صدرت عام 2012 قد اقتحمت عوالم مثقلة بالفساد والتطرف الدينى والارهاب من خلال بطلها الشيخ حاتم الشناوى نجم الفضائيات «يجسد دوره عمرو سعد» الذى يعد نموذجا لداعية يراعى مقتضيات العصر، وتلقى الضوء على شيوخ الفضائيات وصناعة التطرف، وكانت الرواية قد حققت نجاحا كبيرا ووصلت الى التصفيات القصيرة لجائزة البوكر العربية فى 2013 وطبعت منها إحدى عشرة طبعة.
وتبدو شخصية الداعية حاتم الشناوي كما رسمها إبراهيم عيسى في روايته «مولانا» نموذجا لداعية إسلامي، صورته هي الأقرب شبها بنجوم التلفزيون والسينما وكرة القدم من رجل الدين، فهو عالم وتاجر علم، مجتهد ومقلد، ولم يسمح لأحدهما بالفوز على الثاني خوفاً على الرزق وارتزاقاً من هذا الخوف. إنه فعلا «مولانا»، فالمولى يصح أن يكون الولي الإمام، وقد يكون، كذلك، مولى لأحدهم تحت رعايته وفي كنفه.
وتظهر الرواية الشهرة التي حظي بها المشايخ والدعاة الجدد من خلال البرامج التلفزيونية التي يظهرون فيها في العديد من محطات البث الفضائي، وكيف باتت برامجهم تدر أرباحاً هائلة للمحطات التلفزيونية بسبب حجم الاعلانات التي تعرض أثناء فترة بثها، لذلك إرتفعت اجورهم لتصل الى ملايين الجنيهات المصرية.
حتى أن الكاتب يذكر على لسان الشناوي أنه شخصيا «كسب من الدين فلوس أكثر من الذي كسبها الخلفاء الراشدون والبخاري ومسلم وابن كثير وابن الأثير والقرطبي والزمخشري».
والشناوي كما رسمه عيسى شخصية إشكالية تعيش صراعا داخليا عميقا مبعثه الأيمان العميق بفكر المعتزلة الذين كانوا قد أعلوا من سلطة العقل أمام سلطة النص المقدس دون أن يتجرأ على البوح بإيمانه هذا أمام جمهوره الواسع الذي إعتاد أن يخاطبه، بمنطق آخر، يتعارض تماما مع مايؤمن به في داخله، وهذا يعكس طبيعة الخوف والارهاب الذي أمسى يتلبس المجتمع العربي والاسلامي، نتيجة عهود طويلة من التخلف والقمع ومصادرة الحريات، أفرزتها أنظمة دكتاتورية بوليسية، حتى وصل الحال إلى أن المجتمع نفسه بات يفرض الخوف على نفسه بنفسه، وبنفس الوقت يفرضه أيضا على رجال الدين ممن يشم فيهم رائحة ترجيح لسلطة العقل على سلطة النص.
ولم يغفل كاتب الرواية في نسيجها التطرق للصراع القائم بين دعاة التطرف من المسلمين والمسيحيين على حد سواء، إضافة إلى الفتاوى الدينية الغريبة والصادمة التي أمسى المجتمع الاسلامي يتلقاها من قبل خليط عجيب من الدعاة والشيوخ بعد صعود المد الاسلامي المتطرف الذي جاءت به العديد من حركات الاسلام السياسي التي كانت قد ظهرت خلال الربع الاخير من القرن العشرين، وما لهذه الفتاوى من آثار سلبية على عموم المجتمع الى جانب رجال الدين أنفسهم الذين توزعوا ما بين معارض لها وموافق عليها.