خاص ـ «سينماتوغراف»
في فيلم «طالب الصف الأول ـ The First Grader» يعيد المخرج جاستن تشادويك البحث عن معان لكلمات يبدو أنها اختفت من قاموس حياتنا وهي «الأمل والتحدي والنضال والعلم من المهد إلى اللحد»، وهذه الكلمات ليست مقصودة لمعناها المجرد، ولكن كأسلوب وهدف في تعاملنا اليومي.
ويؤكد المخرج في فكرته التي بنى عليها موضوع الفيلم على مدى أهمية العلم بالنسبة للإنسان، وعلى أن التعلم لا يجب أن ينتهي من حياة الإنسان إلا بالموت، كذلك يبعث الفيلم الأمل في النفوس لأنه يجسد نضال شيخ عجوز ليفوز بفرصته في التعلم، ومن ثم أصبح رمزا عالميا.
تتناول أحداث الفيلم قصة «ليتوندو بدور كيميني ماروجي» رجل إفريقي من إحدى القرى الكينية يبلغ من العمر 84 عاما، وهو شخصية حقيقية حركت مشاعر العالم منذ بضع سنوات، حينما علم أن الحكومة الكينية فتحت باب التعلم مجانا، فقرر أن يذهب للمدرسة وهو في هذه السن مع الأطفال الصغار، وكان غريبا بالطبع أن يدخل هذا الشيخ العجوز بينهم ليتعلم، لكن في النهاية نجح في ذلك، وكان سببا في أن يصبح حكاية عالمية أبرزتها الصحافة العالمية ووكالات الأنباء عن قصة «ماروجي» الذي تحدى كل الاحباطات ودخل صفه الأول وهو في الرابعة والثمانين من العمر.
ومن هنا قررت موسوعة «جينيس» للأرقام القياسية تسجيل ماروجي فيها على انه أكبر طالب في الصف الأول الابتدائي، ثم دعته الولايات المتحدة الأميركية ليلقي خطابا أمام الأمم المتحدة، وهكذا عبر ماروجي من تخوم القرية النائية في إفريقيا إلى العالمية بكل قوة، وأصبح رمزا للأمل والتحدي والنضال من أجل التغيير.
إن قصة ماروجي الحقيقية لم يحد عنها المخرج وكاتب السيناريو، لكنهما حملا الفيلم إسقاطات كثيرة تعتبر تاريخية وسياسية واجتماعية. فماروجي في الفيلم هو رجل القبائل سابقا ورجل النضال وضحية الاستعمار، هو ذلك السجين الذي لا يزال يحمل رقمه فوق يديه وكأنه ختم أو وشم للنضال.
فلقد خطط صناع الفيلم أن تكون القصة نافذة يفتحها المشاهد على عالم الظلم الذي كان يعيشه الأفارقة يوما ما، فماروجي هو ذلك الرجل من محاربي قبائل الكوكويو، وبتعبير أدق من الماوماو والذي أقسم على تحرير أرضه من المستعمر، وبسبب هذا القسم عانى الكثير، بداية بفقد أفراد عائلته الذين قتلهم الإنجليز بكل وحشية، ومرورا بتلك الحقب الطويلة من التعذيب في المعتقلات والسجون، ونهاية ببلوغه تلك السن.
وهو لا يستطيع أن يقرأ، ليس لديه أي شيء يجعله يشعر بأن حياته لم تذهب سدى أو حتى تضحياته في سبيل الوطن، وبالتالي تتعدى الفكرة الرئيسية في الفيلم موضوع ماروجي فقط لتنسحب على كل المسنين في كل إفريقيا الذي ذاقوا مرارة الأسر والتعذيب من أجل قضية التحرر، وفي النهاية تجاهلتهم حكومات بلدانهم ولم تقدم لهم أي شيء يذكر (مجرد خطابات شكر كما يبين الفيلم يريد أن يقرأها ماروجي من دون مساعدة أحد).
من هنا، كان على ماروجي أن يقوم برحلة نضال أخرى ليحصل على حقه في التعليم ككل إنسان، ويدخل الفيلم في تفاصيل شديدة التراجيديا، حيث تنتقل الأحداث في رشاقة إخراجية بين أيام نضاله المدرسية الأولى وتاريخ حياته الحافل.
وفي مشهد أليم يقوم ليبري القلم الرصاص فيتذكر بعنف ذلك المشهد الدامي الذي استدعته الذاكرة لجندي بريطاني يضع قلم رصاص مبرياً في أذنه بمنتهى القسوة، ليدفع ثمن الحرب العنصرية وزوجته التي تحمل رضيعه وبجوارها طفلهما الصغير. وكان أسلوب المخرج في معالجة المشهد رائعا، فهو يركز على ذكريات ماروجي الأليمة، ثم يعود من خلال فلاش باك منظم وقصير حتى لا يجعل المشاهد ينفصل عن الحدث الحالي.
تسأله معلمة الصف: «لماذا تقاتل لتتعلم وأنت في الثمانين من عمرك؟»، فيجيب: «بالنسبة لنا الأرض هي الأهم، ولكن لا قيمة لنا بدون قراءة، لابد أن أقرأ رسالتي بنفسي»، وتواصل المعلمة نضالها من أجل تعليمه القراءة وتذهب للوزيرة وتسألها أن تسمح له بإكمال ما بدأ، فهو طالب مجتهد وملهم لزملائه الصغار، لكنها ترجع خالية الوفاض حاملة كلمة وزيرة التعليم: «الأطفال هم المستقبل، أما العجزة فما قيمتهم ؟!».
ويخاطب ماروجي الصغار: «أتعلمون، العنزة لا تستطيع أن تقرأ، لذا فهي لا تعرف أن اسمها ـ عنزة ـ وأنا مثلها الآن، أرجوكم تعلموا حتى لا تكونوا مثلي عنزة»، ويستكمل ذلك البطل نضاله من أجل أن يتعلم القراءة، رافعا شعار «القوة تكمن في القلم»، حتى بعد أن يتلقى هو والمعلمة التهديدات.
ويحاولون تشويه سمعتها عند زوجها، وينقلونها لمدرسة أخرى، ويمنعونه بالقوة من استكمال تعليمه، ويرفضون وجوده بجوار أطفالهم، فيذهب إلى مجلس التعليم ويباغتهم بالدخول ويعطيهم درسا شديد الأهمية بعد أن يعرض عليهم تلك الندوب التي تركها المستعمر في جسده وفي روحه أيضا.
لقد نجح فريق العمل في هذا الفيلم بشكل كبير جدا، بداية من الفنانة الانجليزية السمراء ناعومي هاريس، والتي اشتهرت في فيلم قراصنة الكاريبي، والتي لن نستطيع أن نقول إنها ولدت وعاشت في إنجلترا، بل هي كينية أصيلة في الفيلم، وذلك بسبب إجادتها لدور المعلمة.
كذلك، فإن النجم أوليفر ليتوندو الذي قام بشخصية ماروجي استطاع أن يقود المشاهد بشكل رائع وأداء غير مبالغ فيه، ونجح أيضا المخرج جاستن تشادويك في استخدامه السكان المحلين للقرية الكينية ليضفي مزيداً من الواقعية على أحداث الفيلم الذي ننصح بمحاولة مشاهدته إذا صادفكم في عروض المراكز الثقافية أو أحد الأندية السينمائية.