ـ إبراهيم الملا
في اقتران موفق بين الرمز والصورة، وبين التشبث بالحنين والتوجّس من الفقدان، يمضي بنا الفيلم الوثائقي الجديد، للشاعرة والمخرجة نجوم الغانم، «عسل ومطر وغبار»، نحو تخوم مرهفة، وانتباهات أصيلة ومسكونة بخفايا الذاكرة وطفولة الأرض، وكأن ثمة نداءات شعرية غامضة، تغويها دائماً، لتوثيق مدونات الروح، ومطاردة ما يكمن في الغيب والرجفة والذهول، إنه الهاجس المتنامي أيضاً في دواخل نجوم الغانم لملاحقة الشجن، ومناكفة البهتان، وترميم المنسي، ابتداءً من فيلمها «بين ضفتين»، و«المريد»، ووصولاً لأفلامها الغائرة في جذر الصدمة وغربة السؤال، نذكر منها فيلم : «أمل» و«حمامة» و«صوت البحر» و«سماء قريبة».
فيلم «عسل ومطر وغبار» عرض مساء أمس الأول في الدورة الـ13 من مهرجان دبي السينمائي، ضمن مسابقة المهر الإماراتي، واستند أساساً على بحث استقصائي، وكتابات تأملية للشاعر عبد العزيز جاسم، حول طقوس جامعي العسل في جبال الإمارات، وحول تقنياتهم الفطرية في اقتفاء آثار النحل، اعتماداً على الحدس المكثّف، والمراس المتوارث، والدربة الذاتية، من خلال تطويع إشارات الطبيعة، ورسائل (نجم سهيل)، لاقتناص الذهب السماوي، المتلألئ سرّاً في جوف المغاور، وحضن الكهوف، ومساكن الأشجار. شارك في إعداد الفيلم أيضاً كل من الشاعر والباحث خالد البدور والباحثة منيرة الحميدي.
يستهل الفيلم مشاهده النوستالجية، بالتركيز على فضاء سمعي وبصري مزدحم بأزيز النحل، وكأننا ننصت لتراتيل سماوية، مع صوت خارجي للراوية الشعبية وهي تشرح تأثير ظهور نجم سهيل على أصحاب المهن القديمة، مثل البحارة والمزارعين وصائدي العسل في الحقول والجبال، حيث يتحول هذا النجم بالذات في المخيلة الإماراتية إلى أمثولة للخصب والبشارة والولادات الجديدة في الذات والمكان.
وانطلاقاً من هذه المساحة الأسطورية في الذاكرة، يرتحل بنا الفيلم في المناطق الداخلية في دولة الإمارات، والمحاطة بجبال شاهقة وحاضنة أيضاً لحكايات وحيوات منتمية بعمق لسلالات وأصول الطبيعة والإنسان، وبما يشبه الثنائيات الملتحمة جيولوجياً ووجدانياً.
يقتفي الفيلم أثر ثلاث شخصيات رئيسة هم: غريب اليمّاحي، وعائشة عبد الله النقبي، وفاطمة النقبي، في ثلاث مناطق، تحتفي بعزلتها وابتعادها عن أضواء المدينة وضجيجها، وهي: منطقة دفتا، ووادي سنا، ومنطقة شيص، أما ظلال وانعكاسات عنوان الفيلم فكانت موزعة برشاقة على مرادفات الحياة اليومية لهؤلاء الشخوص، وتلك الأمكنة.
امتاز الفيلم بالتناغم والتوازن في توزيع أزمنته ومشاهده بين الشخصيات الثلاثة، وبين الثيمات المتعلقة برمزية (العسل والمطر والغبار)، وكان واضحاً وجود علاقة تبادلية بين العلامة والمعنى، وبين الدال والمدلول، في الهيكل البنائي العام للفيلم، وبانحيازه للطابع التسجيلي المصاغ في قالب روائي، وهو تكنيك مفعم بالجاذبية والتنويع، تطبقه نجوم الغانم على أغلب أفلامها الوثائقية، لتجاوز وجهة النظر المحايدة للكاميرا، وتجنب المقاربة الشكلية والمعلوماتية لموضوع الفيلم.
وتستنطق الكاميرا هنا دواخل الشخصيات الثلاث، وترصد تدفقات الحكي والضحك، والحزن والانتشاء، والبصيرة والحكمة، والبساطة المتحررة من ثقل التردد ومجابهة العدسة المتلصصة والراصدة.
يأخذنا غريب اليمّاحي إلى مزرعته، وإلى مصائد العسل في الجبال القريبة، ووسط زهور شجرة السمر، وينتشي بعد سقوط المطر، مثل طفل مندهش وجذلان من هدايا السماء، ويقول لنا بأن النحل العطشان لا يمكن أن يروي ظمأ الباحثين عن جوهرته المشعة في أعالي الصخور، ويشرح لنا كيف أن نحل الإمارات مسالم مثل أهلها، وأنه لا يقرص ولا يخون صاحبه أبداً.
أما عائشة النقبي فتشتكي من تغيّر الظروف، وتبوح بخوفها من انقراض جامعي العسل من أهل المنطقة، وتقول «إن العابرين الذين لا تعرفهم باتوا يثيرون الغبار في الطرق الجبلية بسياراتهم ودراجاتهم النارية»، و«إن هذا الغبار بات يلوث طمأنينة الناس والبيوت وحتى خلايا العسل»، وتكشف وبحرقة عن قلقها من هجرة النحل واختفائه إذا استمر الغبار والضجيج في ترويعها، والتشويش على بيئتها الحيوية والنظيفة، كما كانت عليها الحال في الماضي.
وترصد لنا كاميرا الفيلم المشهديات الخطرة لجولة فاطمة النقبي في المنحدرات الجبلية، بحثاً عن خلايا العسل، وكيف أن التغيرات المناخية حوّلت هذه الجبال إلى قامات صماء وصلدة، وأن المهنة التي توارثتها عن أجدادها آخذة في الضمور والتلاشي، وتربط فاطمة عملها على السلال، المصنوعة من جريدة النخل، بعمل شغالات النحل، عندما تشرع في بناء الخلية، وكان للمونتاج المتماهي مع الحكايات المروية على لسان الشخصيات الثلاث، دور في الربط بين الصيغة الشفهية للراوي والصيغة البصرية للمخرجة، وكانت أغلب المشاهد تحمل دلالات موحية، ونداءات ضمنية لإنقاذ الموروث المادي وغير المادي في الإمارات من التغيرات الهائلة في المنظومة البيئية بإزاء التلوث والتمدد العمراني والصناعي، والخوف بالتالي من ضياع واندثار الكثير من السرديات الفطرية، والمعالم الطبيعية، والمهن القديمة المبثوثة على طول وعمق الجغرافيا والتاريخ، والموصولة في مدياتها القصوى، بخريطة الوجد ودهشة الأرض وفتنة المكان.