القاهرة ـ «سينماتوغراف» : فريد رستم
يحفل بالرموز فيلم «علم» للمخرج الفلسطيني فراس خوري الفائز بالهرم الذهبي في الدورة الـ44 لمهرجان القاهرة السينمائي، فالعلم رمز، ورفعه أو استبداله فعل رمزي شديد الثراء، وقدرة الجيل الجديد على استبدال علم بعلم آخر هو فعل رمزي يتجاوز السينما والأدب إلى فعل نضالي ثوري على الأرض.
ورغم كل تلك الرموز، فإن الفيلم فاض بواقعيته حتى انغرس في الحياة الحية للمجتمع الفلسطيني، الذي يقف منذ أكثر من 70 عاماً على حافة الحياة طالبا الكرامة أو الموت.
«علم» الذي استُقبل بحفاوة خاصة في مهرجان القاهرة السينمائي من الجمهور والنقاد على حد سواء، لم يجد طريقه إلى قاعات العرض بسهولة، فقد عانى فريق العمل الأمرّين حتى تمكن من وصول الأراضي المحتلة والتصوير فيها، ورغم أن الأحداث تدور في الأرض المحتلة، فإن أبطالها ينتمون للمجتمع الفلسطيني.
بطولة الفيلم للممثلين محمود بكري، وسيرين خاص، وصالح بكري، ومحمد كراكي، وأحمد زغموري، ومحمد عبد الرحمن.
وتدور الأحداث حول قصة الشاب تامر، فلسطيني يسكن في إسرائيل، يعيش مع أصدقائه الحياة العادية لطالب في المرحلة الثانوية حتى وصول فتاة جميلة تدعى ميساء إلى مدرستهم، ويسعى تامر لإرضائها، لذا يوافق على المشاركة في استبدال العلم الإسرائيلي بالفلسطيني عشية ما يطلق عليه عيد الاستقلال الإسرائيلي، الذي يوافق يوم «النكبة» عند الفلسطينيين.
5 شباب، أحدهم اتخذ النضال طريقاً منذ الطفولة نتيجة الوعي الذي تولد لديه عبر اعتقال والديه واستشهاد جده أمامه، ومنهم من لا يريد شيئا سوى تعاطي المخدرات التي تنسيه الواقع، وآخر لا يرفع عينيه عن شاشة هاتفه، أما الفتاة الجديدة فهي حالمة تحب التصوير وتسعى للخروج من كل هذا الخراب.
قصة بسيطة استطاع فراس خوري من خلالها أن يمرر العديد من الرموز والمعاني، ويعرض الحقائق التي يعيشها المجتمع الفلسطيني تحت سطوة احتلال غاشم.
كتب فراس خوري سيناريو فيلمه، ليؤكد منذ بدايته على رغبته في طرح رؤية مغايرة للسردية الفلسطينية، ونواياه، عبر مشاهد هادئة تراكم معطيات تؤدي إلى وعي مختلف وسردية طازجة وبعيون جيل جديد، يرى الاحتلال يعيش معه على الأرض نفسها ويتطلع إلى أدوات جديدة تمكنه من السير قدما نحو مستقبل أقل بؤسا.
يحكي الفيلم القصة عبر الجيل الجديد الصاعد، ويتساءل عن جدوى ومعنى وجوده وقضيته، يحاول أن يبحث عن إجابة سؤال كيف يفهم الجيل الجديد القضية الفلسطينية؟ سواء كان هذا الجيل في الداخل الفلسطيني أو حتى يحاول معرفة القضية وهو يعيش خارجها.
استجابت السينما لمحاولات تقديم القضية الفلسطينية في قوالب جديدة تختلف عن سابقاتها، وخاصة البكائيات والخطابية والمباشرة التي طرحت بها القضية من قبل.
واستوعب صناع العمل أن خطاب الأجيال الجديدة يحتاج إلى تطوير وجرأة، لا استدعاء للنكبة والبكاء عليها من أجل الشفقة، وربما نجحت بالفعل في حصد التعاطف من أفكار بسيطة تجعل الجمهور يضحك على المأساة ويؤمن بأحقية الفلسطينين في الأرض المحتلة، على الرغم من كل شيء.
لم تقتصر الجرأة لدى خوري على كتابة سيناريو مختلف ومتين البناء، لكن كمخرج امتلك جرأة الدفع بخمسة وجوه شابة ترى الشاشة للمرة الأولى أو الثانية، ليكونوا أبطال فيلمه. كان رهاناً كبيراً أثبت نجاحه، إذ احتاجت القصة ذاتها لأشخاص غير مألوفين لتمثيلها ربما لتجعل كل مشاهد يتخيل نفسه.
كما اختار أن يكون بين الأبطال «شاب جديد» صاحب أغنيات الراب المعروفة في الأوساط الشابة ليوظف الأغنيات التي تغنى بمقاطع منها على مدار الفيلم.
يبدأ السرد الفيلمي من منطقة متشككة. المراهقون الخمسة يفتقدون البوصلة أو البطل «تامر» بالتحديد، الذي يريد أن يعيش حياته في سعادة متجاهلا الواقع.
يطرح الفيلم السؤال الصادم لأصحاب القناعات القديمة الراسخة من الأجيال السابقة: هل يمكن للأجيال الجديدة أن تتعايش الآن؟ ويسير قدما نحو استحالة حدوث ذلك في ظل الوجود الصهيوني.
على التوازي، تتخذ حياة تامر، المراهق الفلسطيني المشتت، مسارا تدريجيًا نحو الإيمان بالنضال من أجل القضية بوصفه حلا أمثل ووحيدا لحياة ذات معنى بالنسبة له، يدرك عمق تعلقه بصديقه الذي يقتله الاحتلال، كما يتحول إعجابه بالفتاة ومحاولة إرضائها إلى مساحة تمسك بها للتركيز أكثر على وجود حل لمواجهة إسرائيل.
تمة رمزية واضحة هنا للفتاة التي تبدو كأنها فلسطين نفسها، والتمسك بها باعتباره هذا التمسك حلا نهائيا لإضفاء المعنى على الحياة.
يصل المراهقون الخمسة إلى قناعة نهائية بضرورة التخلص من الكيان المحتل للأراضي، والنضال ودفع الأثمان للوصول للخلاص منه أولًا، ومن ثم الالتفات إلى أي شيء آخر.
لم يعد الحب يصلح مساحة للهروب أو لتجاهل الحقيقة أو التشتت.
ثمة حل جذري يجب على الأجيال الجديدة أن توجده لو أرادت فعلًا الإجابة على سؤال: كيف يمكن أن نعيش؟ وتكمن الإجابة في إبداع طرق جديدة ومبتكرة للتخلص من الكيان الصهيوني مهما كلفهم هذا الأمر، ليس من أجل صديقهم الذي قتله الاحتلال فقط، بل من أجل مئات الآلاف الذين تخلص منهم الاحتلال.
يمكن القول إن مشاريع السينما الفلسطينية الأحدث التي يصنعها شباب السينما المستقلة في العالم العربي، تروي مشاعر وحالة مركبة تتجاوز البكائيات، مما يتيح لها أن تتوسع وتتوغل وتنشر سردياتها الثورية، على الرغم من القوالب الخفيفة التي تحكي القصص من خلالها.