«سينماتوغراف» ـ أسامة عسل
تعتبر مدينة السينما العالمية هوليود تجسيداً صادقاً لمفهوم الكوزموبولوتية، مدينة تحتضن التعدد في جنسيات نجومها وأفكار أفلامها، دينها الوحيد هو الموهبة التي تستطيع إثبات نفسها سواء كان صاحبها أسود أبيض لاتيني إنجليزي سويدي أو حتى عربي، ومثلما صنع فيها الإنجليزي تشارلي شابلن أمجاده، واحتضنت شهرة السويدية إنجريد بيرجمان، وساهمت في انتشار الألمانية مارلين ديتريش، وغازلت جمال الإيطالية صوفيا لورين ومواطنتيها كلوديا كاردينالي وجينا لولو بريجيدا وغيرهم من النجوم غير الأميركيين، أعطت الفرصة لبعض من النجوم العرب الذين استطاعو اقتحام أسوارها الشائكة، ومنهم من حقق شهرة عالمية كبيرة وكان أبرزهم الفنان المصري عمر الشريف، الذي قادته الصدفة وحدها ليصبح نجما عالميا، عندما حضر اختبارات آداء للفيلم الأميركي «لورانس العرب» في دور شخصية العربي صديق لورانس وكان المرشح قبله رشدي أباظة الذي تغيب عن الحضور ليتم اختيار عمر ويحصل بفضل هذا الدور على جائزة الجولدن جلوب ويرشح أيضا للأوسكار..
الوصول إلي العالمية
وكما تنبأت له عرافة يونانية بالعالمية، وضع عمر الشريف أول خطوه في مشواره مع الشهرة من خلال «لورانس العرب»، لكن مشواره مع العالمية لم يكن سهلا، إذ عانى كثيرا من الصعوبات بمجرد خروجه من مصر في أوائل الستينيات حيث سطوة رأس المال الصهيوني على السينما الأميركية، كما أنه لم يكن حرا في اختيار أدواره بسبب عقد احتكار وقعه لحساب شركة كولومبيا لمدة سبع سنوات، والذي كان بمثابة عقد للعبودية التي وصفها عمر الشريف بالسنوات السبع العصيبة والعجاف، وما أن انتهى ذلك العقد حتى انطلق النجم العالمي باحثا عن النجاح والشهرة؛ بالإضافة إلى اللهجة الأميركية التي وقفت حائلا بينه وبين الأدوار الأميركية في هوليوود مما أهله للأدوار الأجنبية في تلك الأفلام كقيامه بدور عربي أو فرنسي وغيرها من الجنسيات.
قدم له المخرج العالمي دافيد لين جواز السفر الذي مر به إلى العالمية بجدارة في فيلم «لورنس العرب» عام 1962 الذي حقق من خلاله نجاحا لم يكن يتوقعه أحد؛ وجعلت الكاميرات الأميركية تتساءل عن ذلك الشاب العربي الوسيم الذي احتل دور البطولة، وترشح من خلاله لجائزة أوسكار أحسن ممثل مساعد التي اعتبرها المغامرة الفنية والحياتية الأكبر في حياته التي راهن فيها على كل شيء.
ثم شهدت فترة الستينيات انطلاقة حقيقية للدنجوان المصري؛ إذ جسد فيها العديد من أدوار البطولة أمام عمالقة السينما الأميركية التي ترك فيها علامة مميزة ببصمة مصرية عالمية، فقدم «جنكيزخان»، ووقف أمام أنتوني كوين في فيلم «انظر الحصان الشاحب»، ثم جاءته الفرصة الذهبية عام 1965 ليلمع نجمه في سماء هوليوود بدور عمره في فيلم «دكتور زيفاجو» مع دافيد لين للمرة الثانية ليعلن تربعه على عرش العالمية بحصوله على جائزة جولدن جلوب كأفضل ممثل وتم أيضا ترشيحه للأوسكار عن الدور نفسه.
بعدها قدم فيلم «تشي جيفارا»، لكن نجاحه المبهر في فيلمه السابق لم يمنع تعرض جيفارا للعديد من الانتقادات؛ إلا أنه عاد بعدها بقوة ليقف أمام صوفيا لورين في فيلم «سقوط الإمبراطورية الرومانية»، وحقق نجاحا آخر في فيلم «ليلة الجنرالات»، وبعدها توالت أعماله التي منها «الرولز رويس الصفراء»، «الثلج الأخضر»، «الوادي الأخير»، «بذور التمر الهندي»، «مايرلنغ» و«الموعد».
هجوم بسبب قبلة
في عام 1967 تعرض عمر الشريف لهجوم عنيف من قبل وسائل الإعلام العربية لقيامه بدور يهودي أمام ممثلة يهودية هي بربارا ستريسند في فيلم «فتاة مرحة» بعد هزيمة 1967، وصلت إلى اتهامه بالعمالة، وكثرت المطالبات وقتها بإسقاط جنسية من باع وطنه بقبلة ليهودية، وبالفعل سقطت الجنسية المصرية عنه في أواخر أيام جمال عبد الناصر لتعاد إليه مرة أخرى في عهد السادات، وفي المقابل أيضا لم يسلم الشريف من هجوم الجماعات اليهودية القوية، واعتراض الصحافة الإسرائيلية على وجوده ضمن نسيج السينما الأميركية!.
وفي عام 1979 تعرض لمقاطعة عربية شديدة بسبب فيلم «شانتي» على الرغم من اعتذاره عن دور البطولة فيه بسبب تحديد إسرائيل مكانا للتصوير؛ لكنه اضطر إلى القيام بدور صغير إلا أنه لم يسلم من الهجوم العربي، وكذلك لم يسلم من حملة يهودية شرسة بعد أن أصبح أحد أكبر خمسة ممثلين في السينما العالمية.
وفي الثمانينيات أدارت السينما العالمية وجهها المشرق عن عمر الشريف لتجاوزه الخمسين من عمره لتصبح السينما بالنسبة له على حد قوله «أكل عيش»، فأصبح ظهوره في العديد من الأدوار يرتبط بضائقة مالية بسبب مراهنات الخيل أو خسارة كل نقوده على طاولة لعبة البريدج التي احترفها عالميا، والتي كان لها دور رئيس في انطفاء نجمه لفترة طويلة.
العودة إلي الشهرة
وبعدها بسنوات داعبت فكرة العالمية خيال عمر الشريف مرة أخرى، عندما تلقى عرضا للقيام ببطولة المسرحية الإنجليزية «الأمير النائم»، وقد تردد في قبول ذلك العرض إلا أنه أدرك سريعا أنها الفرصة الذهبية لتعيده إلى الشهرة والأضواء في العواصم الأوروبية، وليبرهن لنفسه وللسينما العالمية التي خذلته أن بإمكانه النهوض من كبوته، وبالفعل بارك الجميع تلك الموهبة التي كشفت عن نفسها من جديد، وأعادت الروح إلى فنان ضل الطريق.
بعدها أصر الشريف على أن يتحسس خطواته من جديد، ويختار بدقة أدواره ليفتح أمام نفسه مجالا جديدا يثبت أنه ما زال النجم العالمي، فقدم دور آخر قياصرة روسيا في فيلم «نتاشيا»، ثم «بطرس الأكبر».
وبعد أن اقتصرت أدواره في السينما العالمية لسنوات على الأدوار الصغيرة، أو كضيف شرف يساعد ظهوره لدقائق في نجاح أي فيلم مثل دوره في «المحارب الثالث عشر».
جاءت الألفية الجديدة، لينقل من خلالها خطواته بثقل تاريخه، فقدم فيلم «إبراهيم وأزهار القرآن» في عام 2003 الذي أثار إعجاب النقاد، وأثار ضجة جماهيرية كبيرة بسبب تجسيده دور مسلم يتبنى طفلا يهوديا في دعوة إلى التسامح بين الأديان.
وفي 2005 قام ببطولة فيلم «القديس بطرس» الذي نال إعجاب رجال الفاتيكان؛ إلا أنه أثار حفيظة بعض الجماعات بقيامه بدور قديس مسيحي ووصل الأمر لتهديده بالقتل عبر موقع على الإنترنت.
وكان آخر الأفلام التي قدمها عمر الشريف فيلم «روك القصبة» وهو الفيلم الروائى الثانى للمخرجة المغربية ليلى مراكشى، ولعب خلاله دورا لأب ميت، يتابع أولاده خلال تحضيرات مراسم دفنه، ويتعلق بحفيده الصغير.
أبواب المجد والجوائز
رحلة طويلة اختتمها عمر الشريف الحاصل على جائزة «جولدن جلوب» لأفضل ممثل عن فيلم «دكتور زيفاجو» عام 1966، والذي رشح للأوسكار عن فيلم «لورانس العرب»، لم يظهر خلالها من ينافسه من أبناء جيله في مصر والعالم العربي. وفي العام 2004 تم منحه جائزة مشاهير فناني العالم العربي تقديراً لعطائه السينمائي خلال السنوات الماضية، وحاز أيضا في العام نفسه جائزة سيزار لأفضل ممثل عن دوره في فيلم «السيد إبراهيم وأزهار القرآن» لفرانسوا ديبرون. كما حصل على جائزة الأسد الذهبي من مهرجان البندقية السينمائي عن مجمل أعماله، ليبقى علامة بارزة ينشدها أي ممثل عربي يتجه إلي هوليوود، منتظرا أن تمنحه عطاياها، مثلما فتحت أبواب الشهرة والمجد والجوائز أمام لورانس العرب عمر الشريف.