عن «إيدا».. وماذا بعد؟

«سينماتوغراف»  ـ عمرو شاهين

يخطئ من يظن أن الأبيض والأسود لونان يريحان العين من زحمة التفاصيل في العمل السينمائي، ففي أحيان كثير يسكن في هذا الحياد الظاهري ارتباك وتزاحم، وافكار شرسة تهاجمك من حيث لا تنتظر وهذه المرة جاءت تلك الهجمة من بولندا.

كنت من سعداء الحظ الذين شاهدوا فيلم «إيدا» للمخرج باول باوليكوفيسكي، والذي حصل على جائزة أفضل فيلم أوروبي من أكاديمية الفيلم الأوروبي وهو الأمر الذي يعزز فرص فوز الفيلم بجائزتي الأوسكار والجولدن جلوب  في دورتهما المقبلة.

جاءت افتتاحية الفيلم هادئة صامتة قاتمة وموحشة على الرغم من المشهد الإفتتاحي الذي نكتشف أنه في أحد الأديرة حيث من المفترض ان تكون السكينة والسلام، فهناك راهبة تقوم بتجهيز تمثال للمسيح لنقله في الساحة امام الكنيسة في مشهد حزين يتسم بالأليه الشديدة فالأربعة يحملون التمثال كمن يحملون نعشا يقفون امامه بعد تثبيته يؤدون الصلاة كجنود تؤدي  التحية العسكرية لقائد.

وإمعانا في إظهار الحالة الخاصة التي تعيشها «إيدا» جاءت مشاهد الدير مصحوبه بصدى صوت موحش وعنيف، بينما جاءت مشاهد التعاملات بينها وبين قرينتها في الدير تسير بآليه شديدة كمشهد تناولهم الطعام حيث يأكل الجميع بنفس الطريقة لا تفلت من إحدهن نظرة إلا إلى طعامها، جو من الألية الخانقة وضعك فيه باول باوليكوفيسكي يجعلك طيلة المشاهد الأولية في الفيلم تتسأل «وماذا بعد؟» وتأتي الإجابة سريعة فعلى «أنا» والتي سنكتشف انها هي أيضا «إيدا» ان تخرج لزيارة خالتها والوحيدة الباقية على قيد الحياة من أهلها حتي يمكنها ان تصبح راهبة وتتم إجراءات «نذر البتولية»، تحاول إيدا الرفض ولكن الراهبة الأم تخبرها انه لا بديل عن هذا الإجراء، خالتها ايضا رفضت أن تأتي لإصطحابها فلا بديل من خروج إيدا إلى العالم.

تنظر «إيدا» الى العالم للمرة الأولى نظرة جامدة لاحياة فيها فلا شوق ولا تلهف للتجربة فهي تؤدي طقسا جديدا في رحلتها المحسومة سلفا بكونها راهبة فيضعك باول باوليكوفسكي معها خلف زجاج القطار الذي يمر في شوارع المدينة فتراقب إيدا دائما تشاهد العالم من خلف حجاب، إن لم يكن زجاج القطار فمن خلف حجاب ملابس الراهبة المنغلقة التي تداري خلفها شخصية مذعورة تتمسك بالدين في محاولة لمداراة خوفها الشديد من كل ما هو غريب وجديد.

 يظهر هذا جليا في ملامحها فهي ليست جامدة كما تبدو بل هي ببساطة لاتعرف معاني المشاعر وماهو مرادفها من تعبيرات الوجه.. فهي لا تبتسم ولا تحزن ولا تصدم، دائما هذا القناع المتقن من الجمود الذي يخفي جهل بالمشاعر لا تبلدها.

تطرق إيدا باب خالتها ليقدم الإثنان وصلة من الصمت الحذر تخترقه إيدا بتعريف باهت بنفسها ولكن تفاجئها خالتها «فاندا» بأنها تعرفها و تدعوها للدخول، ومثلما مهد باول باوليكوفيسكي لإيدا في بداية الفيلم، يعطيك لمحة تمهيدية عن شخصية الخالة، «فنهاك رجل في شقتها يكمل إرتداء ملابسه بينما فاندا نفسها يبدوا على مظهرها انها كانت في وصلة شهوانية شديدة الوطء» ولكن الملفت ان الغريب لم يستفسر عن الزائرة التي دخلت ولم تهتم الخالة بتقديمها له او العكس، مما يشير إلى أن هذا الرجل كان هنا بمحض الصدفة، أو كونه «عابر فراش» إذا جاز استخدام هذا التعبير، الأمر الذي يشير الى شخصية الخالة الهشة التي سيكشفها باوليكوفيسكي شيئا فشيئا خلال أحداث الفيلم.

وعلى الرغم من الإيقاع الهادئ للفيلم واستخدام تقنية الكاميرا الثابتة إلا أن المخرج استطاع بحرفية شديدة ان يجذبك لأحداث الفيلم وان تظل تسأل «ماذا بعد ؟». فبعد اللقاء الفاتر بين الخالة وإيدا تصدمها الفاندا بكونها راهبة يهودية.. وتكشف لها حقيقتها وهي أن إيدا فتاة ولدت لعائلة يهودية في احدى قرى بولندا أبيدت على يد النازي إبان الحرب العالمية الثانية، وتأكيدا على جهل إيدا بمعني «المشاعر» ومرادفاتها من تعبيرات الوجه تواجه الصدمة بملامح جامدة تحاول ان تترجم ما تشعر به من صدمة إلى «رد فعل» ولكنها تفشل، وينتهي اللقاء بفتور بارد للغاية.

ليقدم باوليكوفيسكي صدمة ثانية، وهي أن فاندا الخالة السكيرة العابثة تعمل قاضية، الأمر الذي يفسر جمودها وقسوتها المصطنعة وملامحها الجادة طيلة الوقت، ليتقابل الإثنتان مرة أخري في آخر الليل لتسأل إيدا عن مقابر عائلتهما لتفاجأ انه لا توجد لهم مقابر ولا لليهود عامة فتقرر إيدا للمرة الأولي ان تتحري الامر وتبحث خلف ماضيها، ثم يصدمنا المخرج مرة أخرى ان للخالة طفلا تركته مع والدة إيدا وذهبت للحرب وانه مات مع العائلة.

صدمات متتالية في عدد قليل من المشاهد تفتح الطريق امامك لتتسأل من جديد وماذا بعد؟.

تبدأ فاندا وإيدا رحلتها للبحث عن الماضي بالتوجه لبيت عائلة إيدا القديم لتكتشف ان العائلة لم يقتلها النازي بل قتلهم فلاح بولندي أراد الإستيلاء على المنزل مستغلا الفوضي التي اعترت بولندا إبان الغزو النازي والإضطهاد الذي تعرض له اليهود وقتها، ليكشف المخرج جانبا آخر،وهو أن الإضطهاد لم يكن من قبل جنود هتلر فحسب بل كان ايضا من جانب البولندين نفسهم. تصطدم إيدا وفاندا بإبن القاتل الذي ينكر كل ما حدث حتي على الرغم من تهديد فاندا له بسلطتها القضائية ولكنه يتحداها أن لا أحد يمكنه إثبات اي شئ، فتخرج منفعلة ليتم احتجازها بتهمة القيادة وهي مخمورة، ليكشف باولكوفيسكي جانبا آخر من مفهوم العدالة في بولندا في هذا الوقت، حيث تحاول تهديد الضابط بكونها قاضية فيأمر بإحتجازها فتشيح فاندا بلا مبالاه مؤكدة انها ستخرج صباح الغد وهو ما حدث فعلا، وهو ما يؤكد على ما طرحة في بداية الفيلم حيث تمارس فاندا انتقامها الخاص من الإحساس بالاضطهاد والدونية التي يعاملها بها المجتمع حيث اصبحت قاضية تصدر احكاما على البولندين لانهم قطفوا زهرة تيوليب حمراء زرعتها احدى الدوريات الإشتراكية، مثلما جاء في مشهد المحكمة، وهو انتقام ذو حدين. ففاندا تتنقم من المجتمع بالإنغماس في السلطة وتنتقم من نفسها بالتحول إلى شخص يضطهد الآخرين بدافع سلطته.

تتقابل أيدا وفاندا في صباح اليوم التالي بعدما قضت إيدا ليلتها في أحد الأديرة القريبة، ليستكملا الرحلة إلى المدينة التي يقيم بها القاتل بعدما ترك المنزل الذي نهبه لأبنه، واثناء رحلتهما يستوقفهما شاب غريب يطلب منهما توصيله إلى المدينة فتوافق فاندا على اصطحاب الشاب الذي يعمل عازفا في احدى الفرق المتجولة وصدفة يقيم الفتي وفرقته في نفس الفندق الذي تقيم فيه فاندا وإيدا. تحاول فاندا إستماله إيدا للشاب ولكن إيدا الجامدة لا تتحرك حيث يدعيهما إلى الحفلة التي تقيمها فرقته في الفندق فتوافق فاندا على الفور.

 وعلى الرغم من القسوة الظاهرية لشخصية فاندا إلا انها تنهار أمام اقترابها من ملاقاة قاتل إبنها، الذي يرقد في المستشفى يعاني من امراض الشيخوخة، تترك فاندا إيدا تبحث عنه في الغرف وتقف مرتجفة حتى تجده إيدا، وهو ما تكرر في مشهد سابق حيث وقفت فاندا مرتجفة أمام منزل القاتل في محاولة الوصول الأولي، ومحاولتها الفاشلة في استعادة شخصيتها بالإنغماس في الرقص في الحفلة التي يقيمها الشاب وفرقته والتي رفضت إيدا الذهاب اليها، لتأتي مشاهد الحفلة مزيجا بين تخيل إيدا لما قد يحدث وبين ما يحث فعلا.

تفشل الاثنتان في انتزاع ايه معلومات من القاتل في المستشفي ولكن ابنه يزورهما ويعرض عليهما ان يدلهما إلى مكان رفات الطفل نظير ان يتركوا والده يموت في سلام. توافق إيدا وينطلقان إلى الغابة المجاورة حيث يقدم باول باوليكوفسكي أكثر مشاهد الفيلم إيلاما حينما تحتضن فاندا جمجمة طفلها الرضيع الذي مات في مشهد يكشف زيف كل ما كانت تدعيه فاندا من قسوة وعبثية وجمود حيث تتحرر فاندا من إحساسها بالذنب وتحمل الاثنتان رفاة الطفل لدفنه في احدى المقابر القديمة الخاصة بالعائلة. ولم يفت المخرج ان يظهر مدي العبث بالمقابر لكونها فقط مقابر لليهود.

بعد الوصول للغاية يخدعك باول باوليكوفسكي حيث يعطيك إيحاء بأنه على وشك إنهاء الفيلم في مشهد افتراق فاندا وإيدا امام الدير وعودة كل منهما إلى حياتهما السابقة ولكن بعدما خلقت مشاعر من نوع خاص ومركب بين الاثنتين، ولكنه يعود لإستكمال القصة ليعرض مدي التأثر الذي وقع على إيدا وخالتها من جراء رحلتهما. فالخالة العابثة المستهترة ترفض ان تقود وهي مخمورة كأنما تنفذ رغبة إيدا، وإيدا تنظر إلى تفاصيل جديدة وتحاول أن تخرق الآلية التي يعاني منها الدير بإبتسامة أو بنظرة إلى جسد الراهبات أثناء استحمامهن حتي تقرر امام تمثال المسيح انها ليست مستعدة لهذا الآن .

 وعلى جانب أخر، وكأنما انهت دورها واتمت رسالتها أنتحرت فاندا في مشهد رائع حيث قامت بفتح كافة النوافذ والأبواب وقفزت من النافذة بتلقائية شديدة وبسلاسة كمن يفتح باب منزله و يخرج.

تغادر ايدا الدير مرة أخرى لتجد فاندا قد رحلت  فتحاول الإنغماس في التجربة ترتدي ملابسها وتشرب الخمر وتدخن سجائرها بل تتمادي في اكتشاف الحياة التي طالما شاهدتها من خلف رداء الرهبنة، تبحث عن العازف وتجده و طلب من ان يعلمها الرقص وتدخل معه في علاقة ويطالبها بالبقاء ليدور بينهما واحد من اجمل الحوارات في الفيلم شحيح الحوار، تسأله وماذا بعد ؟ يجيبها العادي. حياة.

ترحل إيدا عائدة مرة أخرى إلى الدير تاركه خلفها حياة حاولت تجربتها فأخذت منها القشور وتوصلت لنفس النتيجة فلا إجابة لسؤالها «ماذا بعد ؟» ولكن إيدا العائدة مختلفة تحمل ملامحها لاول مرة تعبيرا عن الإصرار والتصميم وتتحرك من جانب الطريق تدريجيا لتسير في منتصفه تماما. وأكد المخرج على هذا المعني بإستخدامة للكاميرا المتحركة للمرة الأولى والأخيرة في الفيلم.

حاول المخرج باول باوليكوفيسكي  طيلة 80 دقيقة هي مدة الفيلم طرح تساؤله ماذا بعد؟ مستغلا الحالة التي كانت تعانيها بولندا في منتصف الستينيات إبان الحكم السوفيتي القاسي وخروجها من زمرة أوروبا للدخول في ما أطلق عليه «أوروبا الشرقية» محاولا التدليل على كون العنف والإضطهاد حالة ممكن ان تنتقل من انسان لآخر. فالفلاح البولندي أضطهد العائلة اليهودية وقتلها طمعا في البيت وفلت من العقاب لان الجميع كان يضطهد اليهود، وفي نفس الوقت أشار باوليكوفسكي إلى حجم الجمود والموت الذي تعاني منه بولندا اثناء الحكم السوفيتى، وحالة الإرتباك التي سادت المجتمع وقتها.

استخدم المخرج اقل عدد ممكن من الجمل الحوارية في الفيلم، وساعد في ذلك قدرة الممثلة Agata Kulesza التي لعبت دور الخالة فاندا باقتدار شديد، كما ساعدته ملامح Agata Trzebuchowska على تقديم المطلوب منها دون زيادة أو نقصان.

 

 

 

 

 

Exit mobile version