ما الذي يدفع ممثل ناجح يزدحم برنامجه على مدي العام بأدوار سينمائية وتليفزيونية، ليخوض تجربة الإخراج، هل يبحث كممثل عن فرصة مختلفة؟، أم أن لديه بالفعل مشروعاً يريد أن يقدمه، إن نجوم ونجمات السينما العالمية يخوضون تجاربهم الإخراجية في عز نجوميتهم، دون أن يكونوا بحاجة لتبرير هذه الخطوة، فعلها نجوم كبار مثل كلينت إستوود وجودى فوستر وإنجلينا جولي، وفعلها بعض نجوم السينما المصرية كتجربة وحيدة لم تتكرر، مثلما حدث مع النجمين كمال الشناوي ونور الشريف، وخاضها حديثا الفنان التونسي ظافر العابدين من خلال فيلم “غدوة” التى تعني باللهجة التونسية “غداً” وبالعامية المصرية “بكرة”، لكنه لم يكتف بإخراج الفيلم بل شارك أيضاً في كتابته وإنتاجه وتمثيله، وتوج بجائزة الفيبرسي لأفضل فيلم بمهرجان القاهرة السينمائي، ويشارك حالياً ببرنامج “إبداعات عربية” بمهرجان البحر الأحمر السينمائي خلال دورته الإفتتاحية..
منذ المشاهد الأولي للفيلم، نتتبع حبيب الرجل الخمسيني المطارد في شوارع تونس، والذي يبدو للوهلة الأولي أنه شخص مضطرب نفسياً، نراه يقفز لاهثاً حتى يصل إلي بيته، يغلق باب شقته بإحكام، ويضع أقفال حديدية إضافية خلف الباب، ثم يغلق ستائر الشرفة بعد أن يلقي نظرة على الشارع متوهماً بتعرضه لرقابة من جهات أمنية، وقد سيطر عليه شعور الخوف، حتى أنه يلقي بالخبز الذي أكتشف أنه ليس نفس الخبز الذى إعتاد شرائه من السوبر ماركت، معتقداً أن هناك من يتربصون به لإنهاء حياته، يجسد ظافر شخصية محامي تخصص في قضايا حقوق الإنسان، والذي يتوقع قيام الثورة بين لحظة وأخري (حيث تجري الأحداث قبل وقوع ثورة الربيع العربي، بعدما زادت الإنتهاكات ووقوع الظلم على فئات عديدة في المجتمع، غير أن إحساسه وتوقعه بالثورة يقابل بالإستهجان والسخرية من مطلقته) تجسد دورها نجلاء بن عبد الله وتظهر في مشهد واحد بالفيلم.
يعيش حبيب وإبنه الوحيد أحمد ذي الـ15 عاماً، وتبدو العلاقة بينهما مثالية للغاية، فالأب، رغم مخاوفه وإضطرابه الواضح، يحرص على إعداد الطعام لإبنه، بل أنه يقول لجارته التى تبدي إهتماما به، لقد تبادلنا الأدوار وأصبح أحمد يعدنى إبناً له ويقوم بدور أبي، ونري الابن الممثل الشاب “أحمد بن رحومة” الذي يشع حضوراً وموهبة، يتعاطف بشدة مع أبيه ويخشي عليه “كما في مشهد صعود الأب فوق سطوح البيت وحالة الرعب التى سيطرت على الأبن”.
يستعين العابدين بفريق تقني على أعلي مستوى انعكس على تفوق عناصر فنية عديدة بالفيلم، حيث أنهي مراحله الفنية ومنها تركيب الصوت باستديوهات “توتنهام” البريطانية التى شهدت تنفيذ كثيراً من أهم الأفلام العالمية، وهذا هو المنتج الفنان حين يقدم على إنتاج عمل فني، بعكس المنتج التاجر الذي يسعي لخفض الميزانية على حساب العناصر الفنية للفيلم.
تتفاقم أزمة حبيب مع حمله لبعض المستندات وإعتراضه لمسيرة مسئول كبير لاطلاعه على جرائم ارتكبها من يحسبون على النظام، غير أن الرجل لا يعبأ بما يحمله ولا بما يقوله، فيطارده إتهام بالتهجم على المسئول السياسي، يتصدي ظافر في فيلمه لواقع سياسي وإجتماعي، ويعيد تقييم ما حققته الثورة التونسية بعد عشر سنوات من تفجرها، فيذكر في نهاية الفيلم أنه لا تزال هناك محاكمات لم تتم وإنتهاكات لم يحاسب من ارتكبوها.
إختار ظافر العابدين طرح قضية مهمة في أول أفلامه كمخرج، وفي أدائه كممثل استدعي بلا شك إجتهاداً كبيراً في أدائها، وإن كانت قد إنطوت في بعض مشاهدها على قدر من المبالغة في الأداء، كما جاء الحوار (الذى شارك العابدين في كتابته مع السينارست أحمد عامر) جاء مباشراً في بعض المشاهد، لكن يحسب له تقديمه لقضية تؤرق مجتمعه، التقطها بحسه خلال رحلة علاج شقيقه مريض السرطان، ليقدم حكاية في قالب إنساني، وإن ظلت السياسة حاضرة فهي المحرك الأساسي لمصير البطل.
يسلط الفيلم الضوء على علاقات تؤكد أن المجتمع التونسي لا يزال متمسكاً بعلاقات أصيلة مثل علاقة الجيرة، وكيف يساهم الجار العجوز في مساندة البطل، غير أن النهاية تأتي متوقعة مع قيام الشرطة بالقبض على حبيب بينما كان يستعد للذهاب إلى المستشفي للعلاج، ويصرخ بكل قوة لكنه لا يسقط في هوة فقدان الأمل ولا يقدم موضوعاً سوداوياً، بل يشير إلى أن الإبن سيتصدي للظلم وأن جيل جديد قادر على إستكمال ما دفع الأباء حياتهم لأجله.
قبل سنوات قال لي الفنان الراحل نور الشريف أنه ظلم نفسه حين جمع بين التمثيل والإخراج في فيلم “العاشقان”، فقد كان مشغولاً بتفاصيل عديدة كمخرج ولم يركز مع الممثل، متطلعاً الي تجربة اخراجية جديدة لا يشارك بها كممثل، فهل ظلم ظافر العابدين نفسه عندما جمع بين التمثيل والإخراج والكتابة والإنتاج، أعتقد أن الإجابة نعم، وعليه أن يختار التفرغ للإخراج في مشروعه السينمائي المقبل.