«سينماتوغراف» ـ مهند السبتي
صباح الخير أيتها الغرفة، صباح الخير أيتها الخزانة، صباح الخير أيها التلفزيون، هكذا يتفقد الطفل جاك (يعقوب تريمبلاي) محيطه الصغير في فيلم «غرفة Room» حيث لا يمكن للطفل أن يضيف تفاصيل أخرى عن الأشجار مثلا، كما لا يمكن له أن يتحدث عن/ إلى أحد سوى أمه جوي (بري لارسون)، فهما محتجزان داخل غرفة لا يعرفان أين هي، حيث أن الأم كانت قد تعرضت لاختطاف منذ سبع سنوات، وليبدو الأمر أسوأ كان جاك (خمس سنوات) وليد اعتداءات متكررة من قبل المختطِف، وحتى عيد ميلاده الخامس لم يكن يعرف من العالم سوى غرفة صغيرة، المطبخ فيها إلى جوار حوض الاستحمام، خطوة تفصل طاولة الطعام عن حبل الغسيل والسرير.
بالإضافة إلى اضطرار الطفل للنوم في خزانة أثناء زيارات المختطِف الذي يقدم الطعام في مقابل إنجاز شهواته، وفي حال اعتراض الأم جوي على برنامجه الشهواني كان ببساطة يقطع الكهرباء عن الغرفة حتى يأكل البرد من أطراف المحتجَزين ويمنحهم شعورًا مضاعفًا بالتّعاسة.
فور انتهائه من قراءة رواية «غرفة» (2010)، شعر المخرج الأيرلندي ليني أبراهامسون بأهمية نقلها إلى شاشة العرض، وهكذا حدث بأن تعاونت كاتبة الرواية إيما دونغهي في بناء السيناريو الخاص بفيلم «غرفة Room »2015. رصد أبراهامسون نصف مدة الفيلم للحياة والتفاصيل داخل الغرفة، إن كان بالإمكان تسميتها بالحياة، بهذا بدا العالم ضيّقًا بالفعل، شعور يطال المشاهِد والمحتجَز معًا.
وهنا تجدر الإشارة بأن الأم جوي هي صاحبة الشأن في التّماس مع أحاسيس الاختطاف، هي من تضع في رأسها عالمًا أكثر اتساعًا كانت تعيشه دون أن تنقل هذه الأحاسيس والأفكار إلى طفلها جاك، بالضبط كأن طفلها لم يخرج من رحمها، والغرفة هي الحقيقة الوحيدة بموجوداتها وبما يتم التحدث به وعنه داخلها، هكذا حاولت جوي أن تقي طفلها من مغبّة الاحتكاك غير محسوب النتائج، بحقيقة وجود عالم يضم أشياء وكائنات أكثر مما توفره غرفة لا يستطيع الطفل النظر إلى ما هو خارجها، إذ ليس من نافذة، هناك فقط قطعة من الزجاج في سقف الغرفة يمكن أن تظهر من خلالها السماء، كما يمكن أن تسقط عليها الأمطار والثلوج.
في عيد ميلاده الخامس أعلن جاك بعد ثورة غضب بأن قالب الكيك ليس حقيقيًا بلا شموع، هذه أولى الموجات التي اجتاحت تفكير جاك، القصص المروية بلسان الأم، والأخرى التي يظهرها التلفزيون بصوت وصورة، جميعها خلقت طفلًا متسائلًا لا يجد من الأجوبة ما يكفيه، حينها قررت جوي بأنها لن تخسر طفلها، لقد ذعرت حقًا من فكرة ارتباك جاك أمام العالم الكبير في حال حظي بفرصة النجاة من الاحتجاز هنا.
التلفزيون لا يظهر الحياة كما هي، كائنات الكرتون ليست حقيقية، بينما البشر داخل التلفزيون حقيقيون لكنهم يمثلون، هكذا كان على الأم أن تخلص طفلها من القيود التي فرضتها على تفكيره حرصًا عليه، حتى لحظة المصارحة العنيفة بوجود حياة في الخارج، بعيدًا عن هذه الغرفة حيث البيت الكبير الواسع، الناس الذين يحبوننا بالإضافة إلى الجد والجدة، حتى جوي نفسها لا تعرف ما الذي أبقت عليه سنوات احتجازها من أثر للمحبين، لكنها يجب أن تربط طفلها بعالم تعرفه جيدًا خارج الغرفة، على الأقل هو عالم لا يحتجزها ولا يتغذى عليها بالمعنى الحقيقي للاحتجاز والاستغلال.
النبات حقيقي لأنه داخل كوكب الغرفة، بينما الأشجار ليست حقيقية لأن جاك لا يراها، إنها تظهر في الكواكب الأخرى خارج كوكبه الصغير، الكواكب تلك يسميها كواكب التلفزيون، العنكبوت مثلًا حقيقي لأنه يتحرك تحت نظر جاك، وقصة أمه عن الاختطاف وعن البيت الكبير في العالم الحقيقي قبل ولادته، قصة مملة ومخادعة كما وصفها الصغير كرد فعل مقاوم لما كان يعيشه مفترضًا أنه الحقيقة الوحيدة.
تسلّلُ الفأر إلى الغرفة وإطعام جاك له قبل أن تبعده الأم خوفًا على طفلها هو ما ساعد في تقريب الحقيقة من وعي جاك، حين سألته أمه عن مكان اختباء الفأر خلف الجدار، وكيف أن عالمًا كبيرًا هناك في الجانب الآخر من جدران الغرفة، ورغم أن الصراخ والتكذيب كانا وسيلة جاك الدفاعية عن مصيره السيئ كما تصفه الأم، إلا أنه وبعد أيام من المواجهة خاض نقاشًا عن الحقيقي والوهمي مما يظهر في التلفزيون، وصنّف المختطِف «نيك الكبير» (سين بريجرز) ليكون العدو المسبب لتعاستهما.
بعد أيام من تعرف جاك على الحقيقة المرة، كان عليه أن يتدرب على التظاهر بالمرض في أولى محاولات الهروب الفاشلة، ثم كان عليه أن يتدرب على حبس أنفاسه داخل سجادة للتظاهر بالموت، هذه المحاولة التي كانت سببًا في تخليصه ووالدته من سنوات الحجز الطويلة، لتبدأ بعد ذلك معاناة الاندماج مع العالم الحقيقي، معاناة الأم مع متغيرات من بينها انفصال والديها، بالإضافة إلى معاناة طفلها مع ضرورة التحدث إلى البشر في العالم الجديد، مرورًا بتعلم صعود الأدراج والنزول منها.
على مستوى الأداء لم يكن من السهل على الطفل «يعقوب تريمبلاي» أن يؤدي دورًا لا يتطلب منه أن يكون على طبيعته، وقد تحدث المخرج أبراهامسون عن أن دور جاك في الفيلم كان يحتاج ممثلًا حقيقيًا، وقد نجح بالفعل. الحياة في مكان ضيق كانت تحتاج إلى حوار يُشعر المشاهِد بأن عالمه أوسع من هذه الغرفة، رسالة تشير إلى نعمة العيش بعيدًا عن قبضة المختطِفين للحياة ولشخوصها، هذا بعض ما قدمه فيلم «غرفة Room» وكان سببًا في وصول الفيلم إلى ترشيحات الأوسكار (2016).