المدينة السورية اليوم تقف على فالق زلزالي فإما أن تسقط أو ترتد عن الهاوية
دمشق ـ «سينماتوغراف»: سامر محمد إسماعيل
كانت مسرحية «ليالي الحصاد-1987» لمحمود دياب وجواد الأسدي أولى العروض التي شارك فيها بعد التخرج من المعهد المسرحي بدمشق، ليقف بعدها أمام فواز الساجر في مسرحية «سكان الكهف- 1988» ومن ثم ليقدم مسرحيته «الملك لير-1995» في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي؛ منتزعاً جائزة أفضل عرض مسرحي؛ ولتتوالى بعدها العروض التي قام «غسان مسعود- 1958» بإخراجها على نحو: «ألو تشيخوف، لن يكون، مذكرات رجل نعرفه جيداً، ريما، كسور، عربة ترام اسمها الرغبة، الدبلوماسيون، عرش الدم».
في السينما وبعد أدائه لشخصية الضابط الإسرائيلي في الفيلم الإيراني «المتبقي- 1994» انتقل مسعود إلى استوديوهات هوليود فأدى شخصية صلاح الدين الأيوبي في فيلم «مملكة السماء» للمخرج ريدلي سكوت، ومؤخراً أدى دور «كاهن الفرعون» في فيلم لسكوت أيضاً بعنوان «سِفر الخروج» بعد عدة أفلام شارك فيها هناك، بينما يستعد الآن لأداء شخصية «شمس الدين التبريزي» في فيلم عن رواية «قواعد العشق الأربعون» للتركية إليف شافاق.
«سينماتوغراف» التقت النجم السينمائي العالمي في بيته بدمشق، وكان معه الحوار الآتي:
ألا ترى معي أن هوليود التي تقدم البديل لسينما العالم هي أيضاً تعمل على تسويق فن دعائي بطريقة أو بأخرى؟
البعض يقول إننا في زمن الصورة، أنا أقول نحن في زمن صناعة الصورة، وطورنا هذا الكلام اليوم لنقول نحن الآن في زمن تصنيع الحقيقة من صورٍ مصنوعة، فأمريكا كونها تملك الميديا والسطوة العسكرية والاقتصادية في العالم لا نستطع أن نتكلم عنها عاطفياً؛ فأعمالها السينمائية التي تشكل هوليود عاصمتها، يجب أن نتكلم عنها براغماتياً.. أمريكا تشتغل مصالحها حول الكوكب، فهل نشكو أم نشتغل مصالحنا؟ برأيي العرب يشتمون النموذج السينمائي الأمريكي ويتفرجون عليه في الوقت نفسه؛ وهذه مفارقة، ما أريد قوله: صحيح أن الأمريكي يقدم لنا سينما دعائية، لكن سينماه جديرة بالمشاهدة، في حين أن ما يقدم اليوم من أفلام دعائية عربية غير جديرة بالمشاهدة، لسبب أن الأمريكي يقوم بصناعة سينما دعائية متقنة مئة بالمئة، وتكلفه عشرات ملايين الدولارات؛ والأمريكي جديٌّ للغاية في أن يضع علم بلاده في كل كادر من الفيلم لو استطاع، وأن تكون بزة المارينز والكوكا كولا في كل فيلم ومشهد ولقطة حين يحتاج إلى ذلك فنياً أو إعلانياً؛ هو جديّ للغاية في جعل سينماه ترويجاً لنمط العيش والحياة الأمريكية حول الكوكب، ولتعميم هذا النموذج، لتجد أن هناك صناعة سينمائية يحلم بتحقيقها كل من يعيش على هذا الكوكب.
إذاً ماذا تفعل السينمات الصغيرة أمام هكذا نوع من السينما الدعائية؟
السينمات الصغيرة، لاسيما في بلداننا وبلدان العالم الثالث هي أمام هوليود لا تلبث أن تكون سوى أسماك صغيرة أمام حيتان الفن السابع في العالم، هذا أكيد.
إذاً ما هو المخرج اليوم من هذا الفيلم الأمريكي الطويل؟ من هذا العنف المكرس في السينما ونشرات الأخبار ووسائل الميديا الجديدة؟
العنف يأخذنا إلى ما نعيشه اليوم في الأزمة السورية، وما نريد تقديمه من أفلام أو دراما أو مسرح؛ إلا أن نشرات الأخبار قادرة على أن تسبقك به، وما تحققه بعمل فني يستغرق منك أربعة أشهر من العمل المتواصل سواء سينمائي أو مسرحي؛ سيسبقك فيه الحدث الدائر على الأرض ويتركك الخبر الصحفي وراءه بآلاف أميال وأميال، أين نحن من الخبر؟ أما عن السينما فكل واحد منا يشتغل سينماه على قده، خذ أشقائنا المصريين وهم يشتغلون سينما ليل نهار ولديهم شباك تذاكر جيد.. وهناك الهند وباكستان وإيران، هذه سينمات تنتظر فرصة، فإلى أن يصح لها أن تخترق فتخترق سطوة هوليود، لكن هؤلاء ما زالوا مرتاحين لفكرة الميزانية الصغيرة في صناعة الفيلم السينمائي والمشغول على مقاس بلادهم.
لكن اليوغسلافي- الصربي إميل كوستاريتسا وكذلك الياباني كيروساوا حققا اختراقاً كبيراً في هذا السياق؟
هذه ظواهر لا يمكن تكرارها أو تعميمها في سوق السينما الدولية.
كأني أفهم من حديثك أنه لديك ما يشبه ولاء لهذه السينما العملاقة الضخمة والتي تشتغل وفق ميزانيات خرافية؟
لو كان عندي ولاء لهذه السينما أو ولاء لهوليود لوجدتني استبدلت هويتي السورية، ولكنتُ ذهبتُ إلى هوليود بلا عودة منذ العام 2005؛ وهذا بالإمكان، فهناك عروض جيدة قُدمت لي، وعروض كثيرة رفضتها يعرفها الجميع، لكن ما هو الفرق؟ لقد ذهبتُ إلى هوليود وأنا في حالة وعي متقدم، ومرحلة عمرية لا بأس بها، فكنتُ أعرف لماذا أذهب، وما هو المطلوب مني كعربي وكسوري كي أبقى هناك؛ فعندما وضعتُ في الميزان وقارنتُ بين حضوري في بلدي وكيف سأحضر هناك من جديد؛ وجدتُ أن مصلحتي تقتضي أن أكون في بلدي وبين أهلي، لا أن أكون في هوليود، فهناك لم يعد لدي متسع من الوقت كي أبدأ من جديد، لقد عرفتُ جيداً أنه في هذه المرحلة من العمر لن يقدموا لي دوراً أولاً، ففي هوليود يخرج الممثل في سن الخامسة والثلاثين من حسابات شباك التذاكر، ليعمل كممثل في أدوار ثانية وثالثة، فهل من المصيب أن أذهب إلى هوليود وأعيش هناك كممثل يتقاضى أجره من أدوار الصف الثاني أو الثالث؟ هذا براغماتي إذا أحببت، أما من ناحية ارتباطي ببلدي وشعبي فكان من المستحيل أن أعيش هناك وأترك وطني أو أن أعمل في سينما تشتغل ضده، ولهذا تحدثتُ عن المصلحة ببقائي هناك حتى لا أزاود على أحد ولا أبيع وطنيات لأحد، لذلك أنا لا أنتمي لسينما هوليود، لكن في الوقت ذاته لا أقول لا لعرض جيد يدعوني للمشاركة في هذه السينما.
يصمت ويتوقف مسعود عن الكلام ثم يذهب باتجاه مكتبه فيخرج كراساً؛ يتصفحه قائلاً لي: أريد أن أقرأ لكَ بعض ما كتبته وهو بروفات لكتاب أسميته «خلاصات» يقرأ:
وإني رأيتُ الفتنةَ قائمةً فقعدتُ؛ وإني رأيتُ الله ينأى بنفسه عن السوريين فنأيتُ، واقتفيتُ الأثر فوجدتُ أن الله تخلى عن الأمةِ كلها يوم أن تعب منها؛ فاستشعرتُ جهنم والشرر المستطير، وإني رأيتُ نخباً من النخب عبيداً وكنتُ أظنهم سادة..
يقرأ فقرةً أخرى بعنوان: «ورابعهم»:
أحب كلبي لأنه مازال باسطاً ذراعيه ينتظر دون كللٍ؛ صابراً دون شكوى، وفياً أكثرَ من قدرتي على الفهم، ومن قدرته على النطق؛ كل صباح أصلي وأشكر ربي أن كلبي سيبقى كلباً؛ ولن يكون من بني البشر.
هذه أيضاً خلاصة كتبتها حين غادرت دمشق- يقول مسعود:
أقف على تخوم المدن العربية وخلف ظهري أم المدائن تحترق؛ كالقطة تحمل صغارها في فمها وتذهب بهم من مكانٍ إلى آخر، علّها تأمن عليهم من شرٍ قريب وخطرٍ مؤكد، قلقها خوفها عليهم لا يجعلها تستقر في مكان إلى أن يشتد عودهم، يحدث كل هذا زمن السلم، فماذا عساني أفعل في زمن الحرب؟ حملتُ أفراخي في فمي وفكرة أم المدائن بيني وبين ضلوعي؛ وعلى ظهري حقيبة سفر، إلى أين؟ أشتهي أقل المدن خراباً؛ أقلها حراً أقلها برداً. أشتهي مدينةً على مرمى القلب والبصر من أم المدائن، أريد مكاناً يشبه من أحببت، يذكّرُني على الأقل بمن أحب، يعوضني أماناً مفقوداً، لا أشتهي فرحاً لأنه ترف، ولذلك كانت بيروت.
ويتابع مسعود قراءته حين أسأله: لكن ما رأيك بواقع المثقفين السوريين اليوم؟
حلمتُ بأن أمة إقرأ تقرأ، وبأنها بلا طوائف؛ وأن سيوفها ليست عليها، بلا حدود وجوازات سفر، لا تحّمل أبنائها دماً ولا يطلبون دماً؛ وضعوا البيض كله في سلة الأفعى؛ يا للغرابة يا للعجب! التهمت الأفعى البيض كله لما العجب، غضب المثقفون وشعروا بالإحباط والغدر لكن الأفعى تحبُ البيض، هل كنتم تعرفون؟
أسأله أي خلاصة اليوم قادرة على تهجئة هذا الموت العمومي في سورية؟ فيرد عليّ بقراءة مقطعٍ آخر؟
في سورية بلدي زمانٌ للموت، مكانٌ للموت؛ واليوم هو الزمان وهو المكان، ليس المهم لأي سببٍ تموت وكيف تموت وبأي ذنب؟ يكفي أن تدخل دائرة الزمان والمكان السوريين، فأنت هدفٌ محتمل، قتيلٌ محتمل، كافرٌ محتمل، خائنٌ محتمل، ليس بالضرورة أن تكون طرفاً في المعركة أو طرفاً في السياسة، يكفي أن تكون سورياً لتدخل فخ الزمان الخطأ والمكان الخطأ.
لكن كيف تفسر انخراط بعض الفنانين في العمل السياسي، ما رأيكَ بذلك؟
مستحيل على من اشتغل في الفن وفهمه أن يشتغل في السياسة إذا كان قد فهم طبيعة ووظيفة الفن؛ لهذه الأسباب فقط قلقٌ شكٌ خوف، ترددٌ، أسئلة في عالم الإجابات المفتوحة؛ مفتوحة على الاحتمالات التي من شأنها أن تزيد القلق قلقاً والشك شكاً والخوف خوفاً والتردد إرباكاً وتردداً؛ على تخوم العقل عواصف العواطف والخيال التي تودي أحياناً بالعقل في دوامة الجنون. هنا في القلب من العاصفة، وعلى ضفاف الحدين، حد العقل والعاطفة عثرتُ على الفنان محاصراً مرتين وأكثر؛ على فكرة هاملت لم يكن أكثر من ذلك، فما الذي منع الأمير الدنماركي عن الفعل، وأبقاه بين التردد والتردد رغم معرفته الأكيدة.
البعض يقول إن نخبة الفنانين السوريين كان يمكنها أن تلعب دوراً رئيساً في مشاريع ثقافية كان من شأنها أن تسهم في تطوير مجتمعاتها بعيداً عن مغريات المال التلفزيوني ومؤسسات السلطة؟
للأسف في الفترة التي بدأتُ أنا والعديد من زملائي بالتفكير في صياغة فضاءاتنا الخاصة بنا ثقافياً وفنياً وفي قلب العاصمة دمشق، كان الأوان قد فات تماماً؛ فحين بدأنا نحفظ كرامتنا من مهنتنا مادياً، وبدأنا نفكر بالأحلام الشخصية لتنفيذها كأحلام جمعية على مستوى البلد، أقول في هذه اللحظة التي بدأنا نفكر جدياً في هذا الاتجاه تغير كل شيء، وبدأت الأزمة في سورية.
وبماذا كنت تفكر قبل اندلاع الأزمة؟
أول شيء فكرتُ فيه هو فضاء مسرحي خاص بي؛ وكنتُ قد وضعتُ مشاريعاً كثيرة لتنفيذها في سورية؛ وكانت أولى هذه المشاريع هو تأسيس فضاء مسرحي مستقل في قلب دمشق للعمل على مشاريع فنية عديدة كان أبرزها إخراج مسرحية «طقوس الإشارات والتحولات» لسعدالله ونوس، وإخراج مسرحية «الملك لير» لشكسبير، لكن حدث ما حدث وتبددت أحلامنا، على أي حال في النهاية نحن أشخاص، أفراد، لسنا مؤسسات ولسنا أصحاب قرار حتى نستطيع أن نطرح مشروعاً ونمشي وراءه لتحقيقه.
لكن كنتم على الأقل تستطيعون التأثير في السياسة الثقافية لبلدكم؟
لا؛ بتواضع أقولها.. لا؛ لم أستطع أن أؤثر في السياسة الثقافية، وإذا سألتني لماذا؟ سأقول لك: هذا ليس الوقت المناسب لإثارة هذا الموضوع؛ وأنت تعرف جيداً والجميع يعرف كيف كانت علاقتي سيئة مع وزراء الثقافة الذين تعاقبوا على هذه المهمة في الحكومات السورية؛ لم أتفق ولا مع واحدٍ منهم؛ باستثناء العرض الذي حققته عن نص لشكسبير بعنوان «عرش الدم» من إعداد وزير الثقافة السابق الدكتور رياض عصمت، وقتذاك شعرتُ بمسؤوليتي كأستاذ في المعهد المسرحي اتجاه طلاب التمثيل الذين يجب في نهاية المطاف أن يجدوا من يقوم بتخريجهم، وهذا واجب علي وحق لهم؛ ولهذا قمتُ بهذا التعاون؛ لكنها هي السنة الوحيدة التي درّست فيها بالمعهد وندمتُ عليها بسبب مستوى الطلاب الذين قمتُ بتخريجهم، فدائماً كنتُ أقول لهم: إذا لم تجعلوني أحبكم؛ على الأقل دعوني أحترمكم، لكن ألا أحبكم وألا أحترمكم فهذه كارثة.
هل يعود ذلك إلى أننا كنا نعيش زمن المدينة السورية وفقدناها اليوم، أم أننا كنا نوهم أنفسنا بوجودها؟
المدينة السورية تقف على فالق زلزالي اليوم، فإما أن تسقط في هذا الفالق؛ وإما أن تمسك نفسها وترتد عن حافة الهاوية، أخشى أن نكون قد فهمنا فكرة المدينة فهماً خاطئاً؛ فهل المدينة بالنسبة لنا كسوريين هي المدينة السوق، أم المدينة المسرح؟ أم هي المدينة الصالونات والمتاجر، أم هي صالات الفن التشكيلي والمهرجانات التي كانت موجودة بكثرة في بلادنا، أم هي المدينة المقهى والحوار، أم المدينة هي الحارة المغلقة؟ أعتقد أن هناك مشكلة في فهم فكرة المدينة، كل ما ذكرته هل هو كافٍ للخروج بمدينة؟ شخصياً لا أعرف، لستُ متأكداً أننا فعلاً كنا قد استوعبنا كسوريين مفهوم المدينة؟ لقد كان هناك مشكلة أمام العناوين العريضة التي قد توصلنا إلى مستوى المدينة، فهل كانت هذه العناوين حقيقة أم زائفة؟ هل كانت عناوين المدينة التي تم طرحها في العشر سنوات الماضية أصيلة في سلوكنا كبشر يطمحون لبناء مدينتهم؟ أعتقد أنه سؤال بغاية الأهمية وهو اليوم برسم كل السوريين. شخصياً أجيبك بأنه إذا كان أحد العناوين الكبرى للمدينة هو المسرح، هو اللقاء والاجتماع، والحوار؛ إذا كانت هذه عناوين أساسية لصياغة المدينة والمدنية أقول لك: نعم، لكن أين وصلنا بهذه العناوين اليوم؟ لا أعرف إذا ما كانت رغبتنا ببناء المدينة السورية حقيقة وأصيلة أم كانت زائفة.. لا أتكلم هنا عن عُصب وتجمعات ولوبيات ثقافية، أتكلم بالعام ولا أدري أصالة هكذا مفاهيم في حياتنا قبل آذار 2011 ومدى زيفها.
البعض يقول إن دمشق بالأصل هي مدينة تحصينات؛ مدينة فتوحات إسلامية، وهي مدينة «نهاية النهايات» كما يصفها أدونيس، لا تستطيع أن تكون هذا الفضاء المفتوح على الآخر؟
قد يكون في هذا الكلام سياسة واجتماع وفكر في وقتٍ واحد، أعتقد أن دمشق ببعدها الاجتماعي الثقافي حاولت دائماً أن تخرج من الأسوار، ففي السنوات الماضية كان هناك الكثير من المهرجانات والعروض المسرحية والسينمائية والمعارض التشكيلية ومعارض الكتب والكثير الكثير من النوادي ومقاهي المثقفين، واللقاءات الغزيرة بين نخب سياسية واجتماعية وثقافية، كل هذا كان موجوداً ما قبل 2011 وكان هذا النشاط يعطي صورة بأن حيويةً ما تحدث لهذه المدينة، لاسيما في حجم الضيوف الذين كانوا يأتون إلينا ونذهب إليهم؛ كل هذا كان يؤشر أن دمشق مدينة قادرة أن تكون منفتحة على الآخر، وأن تخرج فوق أبوابها وحصونها وأسوارها، لكن أعود للتساؤل: هل كانت هذه الحيوية حقيقة ومؤصلة في حياتنا كسوريين قبل أن تكون جادة وفاعلة وليس مجرد تشريفات في حياة النخب الثقافية والسياسية؟ أم كان ذلك شكلاً من أشكال النفاق والزيف؟ أعود وأقول لك: لا أعرف؛ لكن عندما ترى هذا الانقسام العمودي المرعب للنخب الثقافية والفنية في سورية بعد تعرض البلاد لهذه الهزة الزلزالية ستتوقف كثيراً لتسأل نفسك عن مصداقية ما كنا نقوله حول مفهوم المدينة، فسورية اليوم تتعرض لزلزال سبع درجات؛ زلزال حدث فيه انقسام عمودي بين النخب ذاتها، وليس بين الناس والناس وحسب، بين الناس كان الانقسام أبسط، لكن بين النخب كان انقساماً حاداً وقاسياً، وارتد الكثير من هذه النخب ليكون بدواً رُحّلاً، فاختبئ بعضهم وراء مذهبيتهم وعشائريتهم ومناطقيتهم وعنصريتهم، وقفوا وراءها، ورفعوا يافطات طائفية، يافطات مرعبة، هم الذين لم يكونوا يصلوا لم يكونوا يصوموا لم يكونوا يزكوا، تراهم اليوم في هذا الزلزال يرفعون يافطات طائفية ومذهبية، ما هذا النفاق؟ هؤلاء الناس قرأنا لهم كتباً وقرأنا لهم مقالات في الصحافة، فهل كان حضور هؤلاء الثقافي والحضاري والمدني حضوراً أصيلاً؟ أم حضوراً مزيفاً، شخصياً أعتقد أن حضورهم كان حضوراً مليئاً بالانتهازية ورياضة ركوب الأمواج.
إلى من تلمح في كلامك؟
لا أسماء، لا تعنيني الأسماء، لا قيمة للأسماء اليوم، فما حدث في سورية هو طوفان نوح؛ هل تتوقع أن هناك اسماً يقف في وجه طوفان نوح؟ أية أسماء هذه قادرة على الوقوف اليوم في وجه هذا الطوفان؟ ما عاد أحدٌ مهماً، لقد تحولنا في حضرة هذا الطوفان إلى تفاصيل صغيرة، وربما في كثير من الأحيان نمشي مع سيل السيل، مع الطمي.
برأيك هل أخذ الطوفان المدينة إلى غير رجعة؟
من يشتغل في المسرح والسينما وفي الفن عموماً هو في أكثر من خمسين بالمائة في شخصيته حالم، وخمسين بالمائة تقني وعاقل، ولأننا هكذا سنبقى نحلم بتلك المدينة التي إما أن تكون على نسق جمهورية أفلاطون، يوتوبيا مجردة؛ أو نسخة معدّلة كي تقبل الشعراء والمسرحيين فيها؛ هذا سيبقى حلماً مع الأسف الشديد؛ فما يحدث وعلى مستوى الأمة كلها أن هناك هوة مرعبة ما زالت تفصل بين الفنان الحالم وبين الشارع، وقسوة الواقع، جميعنا نحلم ببغداد ودمشق والقاهرة أمهات المدائن، ليكن فيها السوق والدكان والتجارة والثقافة والشعر والمسرح وزحام السير وحركة التصدير والاستيراد، نعم كل هذا نحلم به جميعاً؛ لكن كيف يتحق؟ هذه أسئلة كبرى ستأخذني إلى منطقة لا أريد الدخول إليها الآن؟ لكن على الأقل كانت بغداد ودمشق والقاهرة هي المداميك الثلاث للأمة، وعندما اهتزت هذه المدن الثلاث اهتزت الأمة بأسرها، هذا الخراب نتيجة الاهتزاز الشديد الذي نسف حتى للأحلام مشروعيتها، لكن لا يعتقدن أحد أنه بتدمير عاصمة من هذه العواصم أنه استطاع تدمير هذه المدينة، المدينة تستطيع أن تخرج من رمادها كطائر العنقاء، فدمشق مثلاً يرقد تحتها سبع مدن، قلاع سورية دُمّرت عشرين مرة، وبُنيت عشرين مرة، وبقيت القلاع قلاعاً، بقيت الثقافة بقي هذا الإرث الحضاري، المدينة قادرة على النهوض دائماً، ما يقلقني هنا ليس خراب الحجر والشجر، يقلقني الإنسان القادر على النهوض بمعنى هذا المكان؛ شخصياً أرى أن الإنسان ضُرب في صلبه، فأكثر ما يقلقني هو ضرب النسيج الاجتماعي السوري؛ كون نسيج النخب السورية تبين لي كم هو هش؛ وكم هو قابل للعطب وللكسر، وكم هو غير مرشّح لبناء المدينة؛ هذا ما يخيفني، المدينة مشروطة بالإنسان المرشح لبناء المكان، وهذا مقلق على المستوى البعيد، وخطير جداً، تقول لي مدينة؟ أية مدينة؟ لنتمكن أولاً من العودة إلى رمي السلام على بعضنا وبعدها نلتفت للمدينة؛ هذا مخيف جداً؛ اليوم المدينة بخطر.