خاص ـ «سينماتوغراف» : جايلان صلاح
ربما لو لم يكن فرانسوا تروفو قد مني بأبوين قاسيين، لما وجد في السينما ملاذا لذاته المضطربة وروحه القلقة. وربما لو لم يصادق روبيرت لاشينيه، الناقد الفرنسي المعروف، لما وجد الإلهام لشخصية صديق البطل في فيلم 400 ضربة Les Quatre Cents Coups ، حتى وإن أكد لاشينيه على أن صداقته لبتروفو كانت معكوسة في الحقيقة. فعلى عكس من شخصية أنطوان دوانيل القيادية، في الفيلم، كان تروفو – وطبقا لكلام لاشينيه- هو التابع لصديقه لاشينيه، والذي يظهر في الفيلم بشخصية الصديق تابع البطل، رينيه بيجي.
الحكاية بدايتها مع الحب الذي حرمته جانين دي موفيراند، والدة تروفو منه، لشغفها بالقراءة والسينما والموسيقى الكلاسيكية. كانت علاقتهما كلما تتدهور، يلقي تروفو بنفسه في أحضان السينما أكثر فأكثر. أول فيلم رآه في السينما كان الفردوس المفقود للمخرج الفرنسي آبيل جانس، والذي مثل البوابة التي عبر منها تروفو إلى الهوس بالسينما، حتى أنه كان يتسلل إلى دور العرض لأنه لم يكن يمتلك المال الكافي لدفع تذكرة. في مراهقته كان تروفو قد أصبح مثقفا سينمائياً بدرجة كبيرة، وقد كون كراسات ومجلدات لمخرجيه المفضلين وكل ما كتب نقدياً عن أعمالهم, كما اعتبره أصدقاؤه موسوعة سينمائية شاملة، لتنقله مابين الأربعمائة دور عرض المتناثرة في أرجاء باريس.
كانت باريس ما بعد الحرب العالمية الثانية في صحوة فنية مذهلة، وقد قرر تروفو الانضمام للحركة السينمائية الفرنسية، لعله يصبح جزءا من محركي الدمى في السينما الفرنسية، وكان قد وضع لنفسه برنامجاً سينمائياً صارماً، قوامه مشاهدة ثلاثة أفلام يومياً وقراءة ثلاثة كتب في الأسبوع. أنشأ تروفو نادي السينما الخاص به والذي أسماه نادي “مهاويس السينما Cercle Cinemane ” عام 1948 وعن طريقه قابل الناقد السينمائي الشهير أندريه بازان والذي سيكون له بالغ الأثر في حياته فيما بعد، حتى أن تروفو سيعتبره أباه الروحي وسيهدي فيلم 400 ضربة لروحه، بعد وفاته باللوكيميا أثناء تصوير الفيلم.
خلال متابعة أفلام تروفو، يبدو تأثره بعدة عوامل، منها طفولته التعيسة الخالية من الحب، والمعاملة السيئة التي تلقاها في إصلاحية الأحداث التي زج فيها في مراهقته والتي استلهم منها بعض أحداث فيلمه 400 ضربة Les Quatre Cents Coups ، مسلطاً الضوء على معاناة المراهقين الفرنسيين في الإصلاحيات ومراكز تأهيل الشباب، من إيذاء نفسي وبدني من الحراس والأطباء النفسيين هناك. لولا أندريه بازان، والذي انتشل تروفو من محبسه، لقبع المراهق المضطرب في حبسه الانفرادي، محتملاً العذاب والإهانة فترة أطول، ربما أثرت على حالته النفسية والعقلية بصورة أكثر فداحة. تبنى بازان تروفو فنياً ومعنوياً، فعينه سكرتيره الخاص وسهل له حضور المجتمع السينمائي Objectif 49 والذي أسسه رواد النقد السينمائي الحديث ألكسندر أستروك، بيير كاست، كلود مورييك وبازان نفسه.
في هذا المجتمع، اطلع تروفو على ثقافة سينمائية دسمة، كما شاهد عدة أفلام لأشهر مخرجي السينما العالمية مثل روبرتو روسيلليني وأورسون ويلز وبرستون سترجز وجان جريميلون. بعد انفتاحه على الحراك الثقافي والفني في فرنسا، وتنقله من مجتمع سينمائي لآخر، واستقلاله مادياً، أصبح تروفو جاهزاً للانغماس في عالم السينما بصورة أكبر من ذي قبل، وإن تسبب ضمه للجيش الفرنسي في تعطل مسار حياته الفنية، خاصة عندما هرب من التجنيد وتم القبض عليه وإيداعه السجن الحربي. حاول تروفو الانتحار للمرة الثانية، وتم إرساله لمصحة نفسية أخرى تابعة للسجن، حيث عومل بقسوة أشد، ولم يكن هناك خلاص إلا عن طريق بازان، والذي استغل صداقاته بذوي النفوذ لإنقاذ صاحبه وضمان وظيفة له في مجلة “كراسة السينما” Cahiers du cinemaوالذي أسسها بازان بالاشتراك مع المخرج والناقد جاك دونيول فالكروز.
لقب تروفو ب “حفار قبور السينما الفرنسية” لهجومه الضاري على مخرجي ومؤلفي سينما هذا الوقت. أول مقالاته “الميل الخاص في السينما الفرنسية” سبب جدلاً كبيراً في الأوساط السينمائية، ومنها خرج تروفو بنظرية المؤلف auteur theory والتي تشدد على أهمية أن يكون المخرج هو مؤلف العمل، وصاحب الرؤيا، مما يشكل أسلوبه الخاص ويميز أفلامه عن أفلام غيره، فتصبح الأفلام مميزة بالمخرج وليس بغيره. أصبح تروفو ناقداً ذا تأثير في الحياة الفرنسية، يكتب بمعدل مقال نقدي يومياً، ويقضي ليله كله في الكتابة، وشرب القهوة والسجائر، تهافتت المجلات السينمائية عليه وطلب منه الكتابة في أكثر من مكان. لكن حلم محرك الدمى، ال auteur الحقيقي، ظل يداعب تروفو، حتى أخرج أول أفلامه، فيلم قصير مدته ثمان دقائق بعنوان زيارة Une visite عام 1954 في شقه زميله الناقد جاك دونيول فالكروز. فيلمه الثاني لم يكن ليخرج إلى النور لولا مقابلته مادلين مورجينستيرن، ابنة واحد من أهم مديري الشركات التوزيع السينمائية في فرنسا، في مهرجان فنيسيا السينمائي الدولي عام 1956.
بعد علاقة عاطفية أدت للزواج فيما بعد، أقنعت مادلين والدها بتمويل فيلم تروفو القصير الثاني، الملاعين Les Mistons عام 1957. رغم قصر مدته -20 دقيقة- إلا أن الملاعين، يحوي كل التيمات التي ستظل تؤرق تروفو طيلة مشواره الفني: المراهقين، الموت، الكتابة، والحب. بدا تفوق تروفو الواضح كسينمائي في هذا الفيلم وبراعته في استخدام كل أدواته السينمائية من موسيقى ومكان وإضاءة في خدمة البناء التدرجي للدراما. كما أن تروفو من المخرجين البارعين في استخدام الكاميرا، كما قال عنه كلود ليلوش، المخرج والكاتب الفرنسي العظيم صاحب رائعة رجل وامرأة 1966 Un homme et une femme “تروفو يتعامل مع الكاميرا وكأنها ممثل رئيسي في الفيلم”.
فيلم تروفو الروائي الأول 400 ضربة Les Quatre Cents Coups هو بحق أعظم وأنجح ما قدم للسينما العالمية، ويعد 400 ضربة أيقونة الموجة الفرنسية السينمائية الجديدة، وأحد أهم دعائمها. في الفيلم الذي كتب تروفو السيناريو الخاص به مع الكاتب المخضرم مارسيل موسي، يأخذ تروفو حياته الشخصية وعلاقته بأصدقائة كمادة خصبة ليبني عليها فيلمه. القصة تدور حول أنطوان دونيل، الذي يبلغ من العمر 13 عاما، ومشاغباته في المدرسة، وحياته المتأرجحة ما بين أسرة لا مبالية، وشلة من الأصدقاء الذين يماثلونه الهوى، وهروبه المتكرر من عالم البالغين الذين لا يفهمونه إلى عالم الجريمة، حتى ينتهي به الأمر إلى إيداعه إصلاحية للأحداث، حيث يعاني الأمرين من سوء المعاملة وقسوة الكبار.
الصدق في التناول ممزوجاً باحترافية التنفيذ جعلا من 400 ضربة أيقونة سينمائية. حصد الفيلم العديد من الجوائز، منها جائزة أفضل مخرج في مهرجان كان عام 1959، وجائزة النقاد من جمعية نقاد نيويورك وجائزة بوديل التي تمنحها جمعية النقاد الدنماركيين، كما رشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 1960. كما ضم معهد الفيلم البريطاني 400 ضربة لقائمة “50 فيلما يجب أن تراهم قبل سن 14″، وأعطى الناقد الأمريكي روجر إيبرت الفيلم 5 نجوم من 5 واصفاً الفيلم بأنه من أعمق ما قدم عن حياة المراهقين الصغار.
بعد نجاح 400 ضربة الساحق، أسرع تروفو في تنفيذ فيلمه الثاني “اطلق النار على عازف البيانو Tirez sur le pianist ” عام 1961 والذي يعد أكثر أفلامه تجريبية وانتماء لروح الموجة الجديدة. قام ببطولة الفيلم الممثل الفرنسي الشهير شارل أزنافور، في دور عازف البيانو الخجول ذي الماضي الملتبس، وقامت بدور حبيبته لينا، الفنانة ماري دوبوا. لم يحقق الفيلم أي نجاح تجاري يذكر، بينما نجح نقدياً وأصبح فيلماً يتداوله دارسي السينما مثل نصوص مقدسة، فقال عنه المخرج الكبير كلود ميلر أثناء دراسته للسينما في معهد الدراسات السينمائية في فرنسا، “لقد كنا أنا وزملائي نحفظ الحوار كلمة بكلمة، حتى أصبح بمثابة لغتنا الخاصة.”
تمسك تروفو بالمدارس الإخراجية القديمة وابتعد عن التجريب في بقية أعماله ، ومنها جولي وجيم Jules et Jim عام 1962 ، وفيلمه الوحيد الناطق بالإنجليزية Fahrenheit 451 المأخوذ عن رواية راي برادبوري العبقرية عام 1966 والعروس ترتدي السواد La Mariée était en noir عام 1968.
في هذه الفترة نما إعجاب تروفو بالمخرج الإنجليزي المخضرم ألفريد هيتشكوك، وعندما سافر إلى نيويورك اقترح تروفو عليه إجراء سلسلة من المحاورات تشمل تاريخه الفني كله، مع التركيز على أهم أعماله وتكنيكه الإخراجي. رحب هيتشكوك بالموضوع وصدر كتاب يضم هذه المحاورات، محققاً نجاحا نقديا وجماهيريا كبيرا.
عاد تروفو لشخصيته المحبوبة، أو “أنا الآخر alter ego” الخاص به أنطوان دونيل في سلسلة أفلام وهي أنطوان وكوليت ((1962، قبلات مسروقة (1968)، بيت الزوجية(1970) ، والحب السريع .(1979)
يعتبر روجر إيبرت قبلات مسروقة Baisers voles من أفضل أفلام تروفو، كما أن الناقد الأمريكي فينسنت كانبي وصفه ب “حالة سينمائية عذبة”.
من محطاته السينمائية الهامة أيضاً فيلم “قصة أديل هـ. L’Histoire d’Adele H” عام 1975 والذي رغم فشله في فرنسا جماهيرياً ونقدياً إلا أنه شهد ميلاد النجمة الفرنسية الجميلة إيزابيل أدجاني والتي فتنت تروفو حتى أنه كتب لصديق “إن تصويرها أشبه بالعذاب اليومي”، وقد رشحت أدجاني لأوسكار أحسن ممثلة عن هذا الفيلم.
لم تخل حياة تروفو من المعارك سواء الفنية أو العاطفية أو الكتابية. ربما هو أصدق مثال على أن وراء العباقرة فوضى عارمة تدمرهم فلا تترك سوى أعمالهم سليمة بينما تبعثر حيواتهم ذات اليمنة وذات اليسرى، فما بين محاولتي انتحار، ومعارك مع منتجين وفنانين وصلت لساحة القضاء، وعداوات مع الكثير من النقاد، وعلاقات مع بطلات أفلامه، لم يتأثر فن تروفو بنمط حياته التدميرية، وإن ساءت صحته، فاكتشف عام 1983 ورماً في المخ، وتدهورت صحته تدريجياً حتى توفى في 21 أكتوبر1984.
رحل تروفو بجسده، وإن ترك مادة خصبة لعشاق السينما ودارسيها، وأفنى حياته في السينما التي وصفها ذات يوم بأنها “أهم من الحياة”، فأعطاها كل ما يملك من موهبة، ومنحته الخلود.