«الرأس المرفوع».. رسالة أمل على خلفية علم فرنسي رفراف
كان ـ «سينماتوغراف»: مها عبد العظيم
اختار المنظمون في «كان السينمائي» عبر فيلم «الرأس المرفوع» بداية «جدية» لمهرجان عرف بأجوائه الاحتفالية وأخبار نجومه وفضائح أفلامه. خصوصا مع مؤشرات هيمنة الفرنسيين على المسابقة الرسمية في مهرجان كان 2015 بخمسة أفلام من أصل 19، ومن ثم فإن الأضواء تبقى مسلطة على الفرنسيين حتى خارج السباق على السعفة، إذ كان الافتتاح بفيلم «الرأس المرفوع» للفرنسية إيمانويل بيركو، وسيختتم بوثائقي «الجليد والسماء» للوك جاكييه. فيكون بذلك المنظمون اختاروا لهذه النسخة 68 الطابع الفرنسي لكن أيضا صبغة «جدية» بتفضيل مواضيع اجتماعية في الافتتاح ومسائل بيئية لاختتام الدورة.
ويثير هذا الاختيار بعض الريبة والحذر، فهو يشكل قطيعة مع «الفولكلور» والعادات التي ألفتها «الكروازيت»، ففي غالب الأحيان ينطلق المهرجان بفيلم «طنان» موجه لإغراء جمهور عريض. ومن العادة أن توضع على رأس الاحتفالات قصة أميرات على غرار «غريس دي موناكو» العام الماضي أو قصة حب أسطورية كما كان الشأن عام 2013 بفيلم «غاتسبي العظيم».
ورأى البعض، على غرار الناقد جان ميشال فرودون، في هذا الحضور الفرنسي المبالغ «علاقات قرابة كبيرة بين المنظمين وبين صناعة الأفلام الفرنسية التي تبسط قوتها وتأثيرها». لكن المندوب العام للمهرجان تيري فريمو أكد أن هذا التواجد الكثيف لمواطنيه يترجم فقط «فقدان تأثير سينما بلدان شرق أوروبا وقسم من أمريكا اللاتينية» إضافة إلى فشل هوليوود في تنظيم سينما المؤلف المهمة فنيا لكن الضعيفة ماليا.
من جهة أخرى يرى العديد في اختيار «الرأس المرفوع»، اللوحة الاجتماعية القاتمة، نوعا من سياسة الواجهة توحي باهتمام المهرجان بقضايا شائكة ودقيقة في حين تزخر المسابقة الرسمية بأفلام «ملتهبة» (وهو ما لا يمنعها من أن تكون أيضا شائكة !) على غرار «حب» لغاسبار نوي الذي يتوقع أن يخلق الفضيحة بإظهاره ممارسة ثلاثية الأبعاد للجنس، أو «مارغريت وجوليان» لفاليري دونزيلي (والفيلمين الأخيرين فرنسيين).
ويدشن فيلم «الرأس المرفوع» دخول جيل جديد من المخرجين الفرنسيين الساحة، وسط عهد جديد في فرنسا يطغى عليه نوع من الحزن والخوف. عبر قصة الفتى «مالوني» الذي يعاني مشاكل نفسية بسبب الإهمال العائلي فيكبر في ملاجئ الأطفال ويسقط تدريجيا في عالم العنف والجنحة قبل أن تحظى قضيته بعناية قاضية وأن يشرف أحد المربين على رعايته.
يتقمص الممثل رود بارادو دور «مالوني» في أداء كان في مستوى التوقعات علما وأنه يحضر الكروازيت لأول مرة في مسيرته، فرود بارادو كان يتابع تكوينا مهنيا في النجارة قبل أن تعرض عليه إيمانيول بيركو الدور. وكأن القصة الحقيقية هي الأخرى قصة نجاح وخروج إلى النور. وقالت المخرجة إيمانويل بيركو في المؤتمر الذي أعقب الفيلم إنها سعت عبر هذا العمل إلى تكريم «المربين الذين يعملون بعيدا عن الأضواء. وكان خالي أحدهم.. ».
وكانت القاضية التي تقمصتها كاترين دونوف، إضافة إلى مربي الأطفال«بنوا ماجيمال»، بذلا كل ما بوسعهما لمساعدة الفتى على تخطي جحيم الصعوبات التي يتخبط فيها. ويذكر الفيلم بأعمال المخرج البريطاني الكبير كين لوش حول مسائل المراهقين وانبهارهم بالعوالم الهامشية والموازية.
لكن يبقى فيلم بيركو فيلما موجعا عن الطفولة وعن الاغتصاب وغياب الأب وفشل العائلة وعن ضبابية الهوية في مجتمع ينهكه الفقر والبطالة. وإن أرادت المخرجة أن تكون الرسالة رسالة أمل وأن ينجح الفتى في النهاية في التأقلم مع محيطه ويخرج من «قصر العدالة» فخورا على خلفية علم فرنسي رفراف.
تركيبة الفيلم توحي أكثر بـ «حماسة اليأس» (والعبارة للشاعر الفرنسي ميشال دوغي) إلى درجة تحاكي خطأ في السيناريو أو في نفسية الشخصيات. ففي الفيلم تناقضات كثيرة لا تسهل الكشف عن مغزى القصة، فكأن الدراما الاجتماعية تخدم رؤية للدولة ومؤسساتها كمنقذ للفرد.. لكن بأي ثمن؟، فالقيم في الفيلم تخلط بين الحب والعنف وبين السجن والصواب وبين الواجب والأخلاق الحسنة.
وفي كل الحالات يبدو أن الفيلم، عن وعي أم لا، يتماشى مع «اللحظة» التي كتب فيها لفرنسا أن تمن بالخيبة وأن تصفى فيها الأجساد وأن تطأطأ الرؤوس، فهاهي كديك مذبوح تسعى إلى الحفاظ على سمعة احتفالاتها رغم الفاجعة وأن تظهر للعالم «مرفوعة الرأس».