الوكالات ـ «سينماتوغراف»
رغم أن المخرج والكاتب توم فورد يستهل أحدث أفلامه، “حيوانات ليلية”، على نحو لا يختلف كثيراً عما بدأ به باكورة أعماله، فيلم “رجل واحد”، فإن أحداث الفيلم الجديد سرعان ما تمضي على نحو مخالف تماماً. ويلقي الناقد السينمائي نيكولاس باربر يلقي نظرة شاملة على هذا العمل الفني.
لا يضيع توم فورد، الذي كان من قبل مصمماً للأزياء، وقته سدى؛ إذ يبدأ فيلمه الجديد “حيوانات ليلية ـ Nocturnal Animals” بمشهدٍ يُظهر وابلاً من الحبيبات اللامعة تنهمر وسط دوامةٍ من الخيوط، ويمتزج كل ذلك مع مجموعة صور متلاحقة لبدينات يتحركن ببطء وبشكل دائري أمام ستارة حمراء اللون؛ عارياتٍ إلا من قبعات وأحذية طويلة الرقبة، تشبه التي ترتديها الفتيات اللواتي يتقدمن العروض الراقصة.
ويبدو المشهد إعلاناً للنوايا من قبل مخرجنا، يقول فيه لمشاهديه بوضوح: “لا يهم ما يفعله (مخرجون مثل) بيدرو ألمودوفار، ونيكولاس فيندينغ ريفين. إذا ما كنتم تريدون مشاهدة عملٍ سينمائي ذي نمط مؤثر وغني بالقيمة الفنية، وينطوي كذلك على تجاوزٍ جريء للقواعد والحدود، ومفعمٍ أيضاً بمشاعر متصاعدة قوية، فاتخذوا مقاعدكم أمام الشاشة”.
ورغم أنه ليس بوسع الكثير من الأفلام أن ترقى لمستوى افتتاحية مثل هذه، لكن فيلمنا هذا ينجح في ذلك بالقطع.
فالعمل على أي حال مُستوحى من رواية “توني وسوزان” للمؤلف أوستِن رايت. وهو يبدو – من الوجهة السينمائية – طموحاً من حيث بنيته الفنية، وأشبه بأحجيةٍ ممتعةٍ تدير الرؤوس من أحاجي عصر ما بعد الحداثة، فضلاً عن كونه دراسةً متعمقة ودقيقة لمشاعر إنسانية كالندم والضغينة والرغبة في الانتقام.
وبعيداً عن كل ذلك، بمقدورك اعتبار هذا الفيلم كذلك إعلاناً عن القمصان البيضاء متجعدة القماش، وهو أمر يبدو متوقعاً من مصمم أزياء سابق مثل فورد.
على أي حال، يتبين أن هذه المشاهد الافتتاحية الناعسة ما هي إلا جزءٌ من معرضٍ فني، يُقام في دار عرضٍ بطابع عصري متكلف بمدينة لوس أنجلوس الأمريكية. وهو معرض يضم أعمالاً تشبه تلك التي يقدمها الفنانان البريطانيان غافِن تورك وجيني سافيل. وهناك نلتقي المسؤولة عن المعرض، وهي حسناء شديدة الجاذبية تُدعى سوزان (تجسد شخصيتها إيمي أدامز)، وتبدو لنا للوهلة الأولى وكأنها تعيش الحياة التي طالما حلمت بها.
فهي تقطن قصراً حداثي الطابع، مُشيداً بالزجاج والخرسانة، ذا حديقة تضم بين جنباتها عملاً نحتياً للفنان الأمريكي الحداثي كذلك جيفري كونز. أما زوجها (ويجسد شخصيته آرمي هيمر) فهو رجل أعمال أنيق ووسيم وبالغ الثراء. يمكن أن تشك في أن ستراته من تصميم توم فورد نفسه.
يتضح بالطبع فيما بعد أن البطلة غير سعيدة على الإطلاق. وينصحها صديقٌ (يلعب دوره مايكل شين الذي يظهر كضيف شرف) بألا تجأر بالشكوى من شعورها المتزايد بالسأم، مُقرعاً إياها بالقول: “عالمنا أقل إيلاماً من العالم الحقيقي”.
وهو تقريعٌ سيميل بعض المشاهدين إلى الاتفاق معه بالتأكيد. اللافت في “حيوانات ليلية” مُضيّهُ على دربٍ مغايرٍ تماماً لما سار عليه فيلم “رجل واحد”؛ باكورة أعمال فورد السينمائية – تأليفاً وإخراجاً – والذي عُرض عام 2009.
فقد كان البعض يرى أن من الأجدر بـ”فورد” أن يعقب ذلك العمل بجزءٍ ثانٍ، يرثي فيه مرة أخرى لتلك الشخصياتٍ الناجحة والمثقفة وحسنة المظهر التي تعيش في لوس أنجلوس، ويختلف ظاهرها اللامع البرّاق الجذاب كثيراً عما بداخلها.
على كلٍ، تتلقى سوزان طرداً من زوجها السابق، يحتوي على النسخة النهائية من روايةٍ يوشك على طرحها في الأسواق، وتحمل كذلك عنوان “حيوانات ليلية”.
وما أن تبدأ في مطالعتها، وحيدةً في قصرها، خلال عطلة نهاية الأسبوع، حتى تتجسد أحداث الرواية أمامنا على الشاشة، وهي تجري في وسطٍ مغايرٍ تماماً، لذاك الذي تعيش فيه سوزان.
فأحداث الرواية تدور في ما يصفه البعض بـ”الغرب الأمريكي المتوحش”، وسط أجواءٍ كأجواء تكساس، شبيهةٍ بتلك التي سادت من قبل أفلاماً مثل “لا بلد للعجائز” و”القاتل بداخلي”، وهي بالأحرى أجواء جريمة لا تخلو من طابعٍ قدري وساخر، تبدو فيه القيم الأخلاقية مشوشة ومبهمة.
وهكذا نرى على الشاشة مشاهد مفعمة بالتوتر إلى حد حبس الأنفاس تقريباً، تُصوِّر رجلاً (يجسد شخصيته جيك جيلينهُال)، يقود سيارته ليلاً وسط صحراء شاسعة وبرفقته زوجته وابنتهما المُراهقة، عندما تُجبر السيارة على الخروج عن الطريق، على يد ثلاثة شبان بيض البشرة من فقراء الجنوب الأمريكي؛ أحدهم يبدو بلطجياً عديم الأخلاق على نحو لا يُصدق، بتصفيفة شعرٍ ينتصب فيها شعره الغزير من على جانبي الرأس ويستوي في المنتصف (يجسد شخصيته آرون تايلور-جونسون).
ورغم أن سوزان أو زوجها السابق لم يواجها قط أي أحداثٍ صادمة على هذه الشاكلة، فإنها تشعر خلال قراءة الرواية، أن ما تتضمنه من أهوال، ليس إلا تعقيبٌ مكتوبٌ بالشفرة على حياتهما الزوجية التي انتهت بالانفصال.
وفي لمسة عبقرية تُظهر براعة اختيار الممثلين المشاركين في العمل، يُسند للممثلة آيلا فيشر دور الزوجة في الفيلم الثانوي الذي يتضمنه العمل الأصلي.
وتبدو فيشر بجمالها الرقيق وشخصيتها الآسرة خلال الأحداث، شديدة الشبه بـ”سوزان”؛ الزوجة في الفيلم الأصلي، وهو ما يفسر السبب الذي يجعل هذه الأخيرة تشعر وهي تطالع الرواية بأنها تقرأ عن جانبٍ آخر خفي من شخصيتها هي نفسها.
اللافت أن العمل يجتذبك بشدةٍ لا فِكاك منها، رغم أن بطلته لا تفعل شيئاً تقريباً في غالبية أوقاته سوى أن تهيم هنا وهناك مُتصفحةً الرواية.
فالمشاهد الخاصة بحياة سوزان – المُسَهَّدة جراء الحرمان من النوم – تصطبغ بطابع هيتشكوك، من ذاك الذي يمتزج فيه الخبال بنذر الخطر.
كما أن ثمة سمتاً ساحراً ورومانسياً تكتسي به لقطات استرجاعها لذكريات الماضي، وذلك حين تتذكر حياتها الرائعة في نيويورك وهي في العشرينيات من عمرها. أما مشاهد تكساس ذات الطابع الوحشي، والتي تتناول أحداث الرواية المفترضة بداخل الفيلم، فتبدو مثيرةً وآسرةً على نحوٍ ينطوي في بعض الأحيان على تعذيبٍ للنفس.
بجانب ذلك كله، تزدان الأحداث باختلاف خيوطها الدرامية بدفقاتٍ من الكوميديا، بدت بمثابة لفتةٍ كريمة من بعض الممثلين الثانويين المتميزين.
ومن بينهم، جينا مالون؛ ذات النظرة الميتة والتي تجسد شخصية سيدةٍ من رموز أوساط الفنانين والمهتمين بالفن في لوس أنجلوس، ولورا لِني، ذات الشخصية المسيطرة بشعرها المجدول والمولعة باحتساء المارتيني في صورة رشفات صغيرة، والتي تعرف سوزان وطبيعة شخصيتها بقدرٍ أفضل مما تُحب أن تُظهرْ.
وتضم القائمة كذلك، مايكل شانون، الذي يجسد شخصية شرطي من تكساس يميل إلى ترهيب الآخرين بين الحين والآخر. وهو شخصٌ سترفض أفعاله تماماً، إلا إذا ما اتُفِقَ وكان واقِفاً في صفك.
وفي الحقيقة، أدى كل من شاركوا في الفيلم أدوارهم على أرفع مستوى. ولذا فبغض النظر عن ذاك التصور النمطي، الذي يفيد بأن أي عملٍ يُعرض للمرة الأولى في مهرجان فينيسيا – مثلما حدث بالفعل لـ”حيوانات ليلية” – يفوز عادةً بجوائز الأوسكار في الفئات الخاصة بالتمثيل؛ سواء للأدوار الرئيسية أو المُساعدة، فإن ممثلين – مثل آدامز وجيلينهُال – جديرون من الأصل بالترشح لنيل هذه الجوائز، بفضل المستوى المتميز الذي رأيناه في العمل.
وتشكل الطريقة المتميزة التي ربط بها فورد بذكاء بين الخيوط الدرامية المختلفة لقصة الفيلم، ما أدى إلى خلق نسيجٍ متماسك منها، إحدى المباهج العديدة التي يتضمنها “حيوانات ليلية”، وأكثر ما يجعله مُشبعاً لمشاهديه أيضاً. ولا غرابة في ذلك، فالرجل كان مُصمماً للأزياء في المقام الأول.
وينطبق ذلك أيضا على الكيفية التي كشف بها السيناريو عما أخذته الرواية – التي تقرأها الزوجة ضمن الأحداث – من أحداثٍ وقعت بالفعل في ماضي هذه السيدة، وما الذي يمكن أن يُفهم من الرواية نفسها بشأن ما قد يحدث في مستقبلها.
من جهة أخرى، ينغمس “حيوانات ليلية” ببهجة في بعض ما أصبح تقاليد مُتعارفاً عليها في الأعمال السينمائية، من تلك التي تروق للذوق الشعبي حتى وإن كانت تفتقر للقيمة الحقيقية، مثل اكتظاظه بمشاهد العنف المثيرة للانزعاج، وحرصه على أن يشمل كذلك مشاهد ذات طابع جمالي.
وإلى جانب هذا وذاك، يتضمن العمل نظرةً تأمليةً للعلاقة الغريبة التي تربط بين الحياة والفن. ولكن رغم الطابع اللعوب والخيالي، الذي يكتسي به فيلم “حيوانات ليلية”، فإن المشاعر والعواطف التي تعبر عنها شخصياته تبقى حقيقيةً – بالقطع – على نحوٍ آسرٍ للأفئدة.