«سينماتوغراف» ـ إسراء إمام
مريض الإكتئاب ليس كمن يكور نفسه فى ركن، يُعتم غرفته، يبتلع كلماته، ويعتزل العالم. إنما هو من يحمل فى جيوب قلبه شحنة آلامه، غضبه، ورعبه. يخطو بها هنا وهنا، يسير معها وحيدا وسط الجموع، بينما لا يراها الآخرون وهى تطفر من بين ابتساماته، زعقاته، وزفراته.
مريض الإكتئاب هو الشخص المحاصر بين صراعه الدائر والدائم، ذلك النزاع القائم بين أمله وألمه. نقطة الحياد هى منبت معاناته، فذروة مرضه تتلخص عند النقطة الرمادية، التى تأبى أن تأخذه إلى سلام اللون الأبيض، وعتمة اللون الأسود. نعم، إنها الحقيقة المنافية لمفهوم البعض عن هذا المرض، حينما يعتبرون أن جموح الشخص فى العزلة، وقراره الحاسم بخصوص الموت، هى الدرجة الغامقة، والمرحلة الفاصلة التى عندها يمكن تشخيصه كمريض إكتئاب من الدرجة الأولى. فالأول لايزال يعافر، وفى المعافرة يكمن الوجع والجهد، ينشبكان فى ترس دورانى، مولدا شحنات إضافية وطازجة من العبأ. بينما الثانى، بدا مطمئنا بأنه بات مستقِرا عند قاع الهاوية، لا مزيد من التيه، وبذل النفس للفِكر.
كلير «جينيفر أنستون» فى فيلم كيك، هى الشخصية الإكتئابية النموذجية التى قد تتعرض لها يوما فى السينما. إمرأة ثرية، تحيا فى منزل فضفاض بجسد مشوه بندبات العمليات الجراحية، إثر حادثة سيارة فقدت فيها ابنها. كل خطوة قدم لها على الأرض، تدِب ألما فى جسدها الذى يأبى أن يُشفى، ألمها ينغز ذاكرتها ويُغذى إحساسها بالفقد والوحدة. فتظل دائرتها المفرغة تدور حولها، بإيقاع وئيد، مميت، وغنى بالمشاعر الإنسانية المعقدة.
فيلم كيك، من الأفلام التى إختارت منطقة إنسانية عادية، وتوغلت فيها بإتقان وبصيرة. هيأت لها واقعا محبوكا، وأبرزت من خلالها أحاسيس دقيقة، على الرغم من خصوصيتها حققت تماسا قويا مع حالة المتفرج، حرضته لكى يبدو مأخوذا بقصة كلير، وفى الوقت ذاته واجهته بمعركة قد تكون مخبوئة بداخله، فطبقت ما يشبه نظرية أرسطو الشهيرة حول التطهير بالدراما، وأرجعتنا إلى مقولته «هيكل العمل التراجيدي لا ينبغي أن يكون بسيطا بل معقدا مجسدا لمشاعر الخوف والشفقة».
المراحل الأربعة للخلاص
يتناول السيناريو فترة متخبطة من معاناة كلير، يتغير فيها سهم قراءة حالتها الإكتئابية بمعدل 180 درجة. ففى بداية الفيلم، نراه يستعرض لنا حياتها البائسة، عُطب سلوكها النفسى والإنسانى. ولكن القراءة لا تزال وقتها مستقرة إلى حد ما، واقفة عند حد معين من السقوط، وبذل الجهد. فهى تحيا بتهكُم، لا تفوت مواعيد جلسات العلاج الطبيعى، وبالرغم من كونها لا تناضل بجِدية للإستفادة منها، إلا أنها لم تفقد أملها فيها. تُفرط فى تناول الأدوية المُخدرة، تنام وتستيقظ على آلام جسدها التى لا تبرأ. تُراودها من حين لآخر كوابيس مُحرضة على الإنتحار، ولكن لم تجرؤ يوما على مجاراتها.
تبدأ المرحلة الثانية من تغير قراءات حالة كلير، حينما تُخبرها مدربة العلاج الطبيعى أن جسدها لم يحرز أى تقدم منذ 6 شهور، فى الوقت الذى باتت تعانى فيه من طريقة الحصول على الدواء المُخدر الذى يخفف عنها، بعدما تم طردها من مجموعة التأهيل النفسى المعنية بصرفه لها. المؤشر هنا يتراقص ويبلغ ذروة إرتعاشه، هنا نرى كلير فى أكثر توقيت حرج قد يمر على مريض الإكتئاب. مدى هذا الجحيم الذى أقصده يتلخص فى محاولة تخيل المتفرج لمشاعر كلير، والمكثفة كلها بمشهد محاولتها الإنتحار غرقا فى حمام السباحة. تتشبث كلير برافعة تمارين ثقيلة، وتُلقى بنفسها إلى عمق الحوض، تبقى تحت المياه لدقائق حتى يشِح نفسّها، ومن ثم تتخلص من الرافعة وتطفو إلى السطح بحركة مستغيثة. فى هذه الدقائق يكمن الجحيم. تنحصر كلير فى منطقة البين والبين، وتعلق بين السماء والأرض. تبحث وراء تفاصيل إنتحار نينا «آنا كندريك»، وهى الفتاة التى كانت تشاركها مجموعة التأهيل النفسى قبل أن تنهى حياتها. تذهب إلى المكان الذى ألقت منه نينا نفسها، تحرص على أن ترى غرفة نومها ومنزلها. تُقارن شكل إحساسها الخاص، والإحساس الذى كان يراود نينا من قبل، تسأل ضابط المرور الذى شهد الحادثة «هل قفزت فى الحال، أم بقت لدقائق» وحينما يجيبها بأنها بقت لدقائق، تقول فى حسم «لم تكن متأكدة مما تفعله». نشعر وكأنها تحسد نينا على إقدامها الجرىء، على السلام الذى شعرت به قبل وهلات من قفزتها، على كونها لم تتراجع فعليا عن قرارها بالموت، حتى وإن لم تكن متأكدة منه.
المرحلة الثالثة، وهى المرحلة الأكثر ازدهارا فى معاناة كلير، يبدو أنها هنا اتخذت خطوات فعلية للشفاء، بعدما ظهر فى حياتها زوج نينا وابنه الذى فقد والدته، مع تكرارهما فى شكل يوم كلير، نراها تذهب إلى طبيبة العلاج الطبيعى وتصارحها بأنها تريد بجدية أن تتخلص من الألم. تعِد العُدة لتحضير الغذاء للأرمل وابنه، بينما تعود لتصفيف شعرها وتزيين وجهها حينما تستقبلهم. وفى الوقت ذاته تُقدم على دخول غرفة ابنها المتوفى، لكى تُحضر للصغير الضيف بدلة سباحة لكى يلعب فى مسبحها الخاص. تدلف إلى الغرفة، بعدما كانت لا تعترف بوجودها من الأساس، وبينما كانت تتجاهل أى تفصيلة تخص واقعة فقدها لولدها وكأنها لم تكن. ولكن كل هذه القدرة على المواجهة تتبخر، حينما تأتيها زيارة من الشخص المسئول عن حادثة السيارة التى عرضتها لكل هذا الكابوس. تهتاج كلير حينها، وتنهال بالسباب والضرب على الرجل. وتتعرض لحالة إنتكاسة ضخمة.
وهى المرحلة الرابعة، حيث تنتكس كلير تماما. ونراها أكثر إقداما وقوة فى التصالح مع فكرة الموت، هى الآن فى مرحلة سلام نقيضة، أهون بكثير من المرحلة السابقة. ترغب فى الموت، وتُقبل على تنفيذ رغبتها من دون تردد وخوف. هذه المرحلة من التصميم هى ذات السبب الذى دفعها بقوة للخلاص، رمت بها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ببراعة، واختبارها لتجربة الموت الحقيقة ـ التى لم تنجح لأسباب خارجة عن إرادتها ـ جعلتها أدرى بمشكلتها، وأعلم بمواطن عقدتها، بعد هذه النقطة حدثت المكاشفة، وشفيت كلير إلى حد ما، شفاء لا رجعة فيه.
شخصية كلير
بضع سمات تبدو بارزة فى شخصية كلير، بالطبع هى جزء أصيل من شخصيتها، ولكن معاناتها دفعت بهذه الخصال، لكى تبدو فى هيئة أكثر تطرفا ووضوحا…
(الغضب)
رودو فعل كلير طوال الوقت ساخطة، عنيفة، وقد أسس لها السيناريو فى تفاصيل ملحوظة، وأخرى هامشية، محافظا فى ذلك على كيان الشخصية طوال مدة عرض الفيلم. مثلا نراها بارزة فى المشهد الذى أخذت كلير تستعيد فيه تفاصيل إنتحار إحدى عضوات مجموعة التأهيل النفسى، والتى هى تداوم على حضورها. تتمادى فى تبيان بشاعة طريقة موتها، بغرض إزعاج بقية العضوات اللاتى يلتزمن بمظهر إنسانى هش ومحافظ. هى هنا فى أقصى صور نبذها لمن حولها. بينما نرى نفس المفهوم يتكرر، حينما نلاحظ تعليقها الساخط على موظفة إستقبال العيادة، حينما نادتها بالرقم المُسجل لدورها فى الكشف، لتعبر كلير عن امتعاضها «فى المرة القادمة، نادينى بإسمى لإننى لا آبه بالأرقام». هى غاضبة لأقصى حد. وصراحتها فى التنفيس عن غضبها، نوع من أنواع العقاب الذى تراه ملائما لهذا العالم، الذى لم تعد منتمية إليه.
(تحايل)
كلير طوال الوقت تتحايل لتصل إلى غرضها، فنراها تُشتت إنتباه الطبيبة المشرفة على كتابة وصفاتها الطبية، تعدها بتوصية لإبنتها فى جامعة كاليفورنيا، فى مقابل أن تتحرج الأخرى عن الشك فى مدى صدق كلير حول إحرازها تقدما بين مجموعة التأهيل الخاصة بها، وهو الشرط الذى يتوجب حدوثه حتى تستطيع الطبيبة صرف الدواء المُخدِر الذى يقيها من آلام جسدها المبرحة. كلير تم طردها من مجموعة التأهيل، فلا ثمة ترخيص صادر عنه يفيد بكونها تتوائم مع خطوات العلاج، بينما وفى الوقت الذى اُنهكت فيه الطبيبة للبحث عن الترخيص، نرى كلير وقد لجأت لهذه الحيلة، بأداء وِدِى مقنع، يجعل الطبيبة تنفى مجرد الشك بأنها قد خُدعت لهذه الدرجة.
موضع آخر نرى فيه الأمر يتكرر، حينما تذهب كلير إلى منزل نينا، مُدعية أنها كانت تسكن هذا المنزل وقت الطفولة. فتقدم أداءا إرتجاليا آخر، وهى تصف لزوج نينا شكل غرفتها القديمة، وترسم على قسماتها انفعالات ملائمة للموقف.
كلير شخصية إيجابية، ذكية، وعنيدة. يمكنها أن تصل لما تبغيه بسهولة، طالما وضعته هدفا داخل عقلها، وهنا بالضبط يتشكل سببا وجيها لمأساتها، فالشخصية التى تمتلأ عن آخرها بكل هذه الإنفعالية، هى أقرب ما تكون لحافة التعب عن غيرها، حينما تتكاتف عليها الظروف.
(الميل للهروب)
كلير مدمنة هروب، تهرب فى لذاتها مرة حينما تقيم علاقات جنسية عابرة ومنفعية مع عاملى صيانة منزلها. ومرة أخرى وقتما تعمد توطيد علاقتها مع زوج نينا المنتحرة، تقف أمام منزله بحجة أنها ترغب فيمن يقود لها سيارتها، وتهرع إليه فى منتصف اللليل زاعمة شَكِها حول قتله لنفسه، بينما هى فى الحقيقة راغبة فى قضاء الليلة مؤتنسه به.
كلير تهرب من خوفها، وحدتها، والهاجس المُرعب المحرض على الإنتحار فى داخلها.
علاقة كلير بـ نينا (هلاوس ملموسة)
يلازم شبح نينا حياة كلير، بدءا من المرحلة الحرجة التى ذكرتها من قبل. نينا عنيفة، حاسمة، وعامل مُحرض بقوة لدفع كلير للإنتحار..
نينا دوما كانت تصارح كلير بجبنها، حقيقة البؤس الذى تحياه، تطالعها أول بأول بسوء الوضع. تفعل ذلك كله بنبرة هجومية، حاقدة على كلير، وكأن بينهما منافسة من نوع ما..
فى الحقيقة نينا لم تكن إلا مجرد هلاوس انعكاسية لشخصية كلير الموازية، هلاوس قوية، نمى وجودها بسبب مواظبة كلير على تناول العقاقير المخدرة، وبدت بهذا العنف، لأنها ولدت فى المرحلة الأخطر من تاريخ كلير المرضى.
ولهذا، ومع إنتهاء هذه المرحلة، نجد خيال نينا أكثر تسامحا، أكثر هدوءا وتعاطفا مع كلير. نراه بدلا من كونه ملتزما بدوره فى هدها، بدا مساهما بدورا مناقضا فى بناءها وبلوغها نقطة المكاشفة. وما حدث هو أن كلير بعد خوضها تجربة الموت بجدية وعزم حقيقى، بدت أقرب إلى نفسها، متصالحة معها، وسائرة بخطوات متسقة نحو الحرية والعتق.
علاقة كلير بـ سيلفانا (بضع حنان باقى)
سيلفانا هى مدبرة منزل كلير، تتعامل معها كأم، وكأنها من دمها. واعية بأزمتها النفسية، ومستوعبة لكافة تصرفاتها الحمقاء. كلير تواجه تدخلاتها أحيانا بالعند، والرفض. ولكنها تحبها بنفس الدرجة، وتحتاج إليها وكأنها لن تكن إلا بها.
رسم السيناريو تفاصيل إنسانية بليغة لهذه العلاقة المتفردة، فنرى سلفانا مثلا تنام منتظرة فى سيارتها حتى يخرج عامل الصيانة، وهو الذى ضاجع كلير قبل قليل، حتى تطمئن عليها، وتهجم عليه منتشلة منه صندوق لعب الأطفال الذى أعطته له كلير، فى محاولة للتخلص من أغراض ابنها. لا تهدأ سلفانا إلا عندما تتحصل على الصندوق، وتكومه إلى جانب آخرين مثله فى منزلها، متحينة موعد عودة سيدتها من غيابها الذى طال، وآملة انتباهها إلى أنها فى أمس حاجة لهذه الاغراض الثمينة الباقية من الصغير.
مشهد آخر بديع، تقابل فيه سيلفانا بعض من صديقاتها المبهرجات بمطعم ما، بينما تلمح كلير نبرتهن المتعالية فى الحديث مع سيلفانا، وكأنهن يعايرنها بقلة حظها من الأموال، وتواضع مستواها المعيشى، فتنصرف كلير لدقيقة، ثم تعود وتشكر سليفانا أمام صديقاتها على العشاء، وقد دفعت مصاريفه خِلسة وأمرت النادل بأن يحضر الباقى إلى سيلفانا وكأنها مضيفة كلير وليس العكس.
هذه العلاقة تحكى عنها لقطة قيمة، حينما تتمدد سلفانا بجانب كلير فى مشاهد الفيلم الأخيرة، يتبادلان تحية النوم، وكل منهما تقبض على كف الأخرى وكأنها تجد فيها معنى نادر للأمان والحب.
بعض ملاحظات الصورة
فى المشهد الذى تحاول فيه كلير مغالبة ألمها، بالنزول فى منتصف الليل إلى حمام السباحة، تلتقطها الكاميرا فى كادر من تحت الماء، وهى تطفو بجسدها على السطح، ولكن مود الإضاءة، وشكل حركة جسد كلير مع قدر البعد الذى التزمت بها الكاميرا، أوحى بكونها غريقة، وهى الفكرة التى تتماشى مع وضعها الحياتى تماما.
كادر آخر رائع، أتى بين اللقطات الغيمية التى توالت لكلير، وقت مكوثها فى المستشفى إثر ابتلاعها لحبوب مخدرها كاملة. فنجد وجه زوج نينا فى لقطة معتمة، تتبدى ملامحه بوضوح وكأن الإضاءة استهدفتها بينما فرشت اللون الأسود من حولها. إنه كادر موحى، يشير إلى قيمة وجود هذا الرجل فى حياة كلير، بالرغم من أن سيلفانا قبلها كانت تجلس إلى جانبها، وتواظب على الدعاء لها، ولكن كادرات سيلفانا لم تُصنع لكى تقول أنها وحدها مُخَلِص كلير، كما قالت عن زوج نينا.
اصرار الكاميرا على أن تلتقط المناظر الفوقية، والتى تراها كلير حينما تكون مستلقية على ظهرها فى داخل السيارة، لأنها تتألم حينما تجلس فى الوضع المعتاد. خلق نوعا من الحميمية، بين كلير وبين المُتفرج، وقربنا من إحساسها الداخلى بالعزلة، على الرغم من كونها دوما تكون مع أحدهم فى السيارة.
رتوش كتابة
ثمة تفاصيل أحسن السيناريو استغلالها، منها الطريقة التى كان زوج نينا يعبر فيها عن تسامحه مع انتحارها حتى ولو بقدر، حيث ذهب ليزور قبرها، معلقا فوقه رنانة رياح. فنجد أن نفس التصرف تقوم به كلير، حينما تتحسن حالتها، وتتعلم مواجهة موت صغيرها.
تفصيلة أخرى، يستغلها المخرج دانيل بارنز ليُنهى بها الفيلم، قائلا فى حسم «لقد شفيت كلير». حينما تمد كلير يدها وتُعَدِل من وضع مقعد السيارة، لتصبح جالسة بشكل عادى، وهى التى لم تفكر طوال الفيلم فى مجرد التحرك عن نومتها على المقعد، بل كانت تشكو متململة ومتألمة.
آخر كلمتين:
ـ جينيفر أنستون، موهبة حاولت مرارا أن تتجلى إلى النور، على مبعدة من أفلام المقاولات والعرى، نجحت أحيانا فى أفلام مثل good girl ، friends with money .. ولكنها فى cake بلغت ذروة الإندماج مع النص، بشكل لا يمكن وصفه.