«سينماتوغراف» ـ محمد زرزور
لطالما كانت السينما هي محصلة لمجموعة من التجارب التقنية بدأت أواخر القرن التاسع عشر، ومن ثم أصبحت نتيجة لمحاولات فنية يخوضها صانع الفيلم بنفسه متأثراً بقراءاته ومتابعاته، فيصنع نهجه السينمائي الخاص حتى وإن اختلفت طريقة المعالجة من فيلم لآخر.
في ثاني تجاربها الإخراجية الروائية السينمائية الطويلة بعدTallulah عام 2016، قدمت سيان هيدر في Coda أبسط أنواع المعالجات السينمائية بعيداً عن تعقيدات الصورة والحبكة ورمي الألغاز هنا وهناك ولمتها في نهايات الفيلم، فبنت مَشاهدها على أساس بداية واضحة ونهاية متوقعة، وقللت مونتاجياً من تداخل المَشاهد من مواقع متعددة محافظة على التوازن ما بين الزمن السينمائي والزمن الحقيقي، فاتبعت أسلوباً تُمسك به بيد المُشاهد لتأخذه إلى حكايتها وتنقله إلى الحدوتة التالية بكل بساطة وسلاسة، لتصل به إلى اللحظات الحاسمة عند الدقيقة 95 و13 ثانية عندما أغلقت بطلتها روبي روسي (ايمليا جونز) باب قاعة اختبار القبول الجامعي على مسرح إحدى الجامعات، لتعلن معه هيدر أنها مستعدة منذ هذه اللحظة لاستلام جائزة الأوسكار في مشهد استغرق من الزمن 5 دقائق و30 ثانية معتمدة قطعاً مونتاجياً بمعدل 5.2 ثانية، حيث قدمته في 63 لقطة من أحجام وزوايا مختلفة، وكأنها ستقدم لنا فيلماً مستقلاً قصيراً في هذه اللحظات.
بدأ المشهد بلقطة تأسيسية استغرقت 10.6 ثانية لنتعرف فيها على المكان الذي سيدور فيه الحدث اللاحق يتوسط اللقطة ثلاثة أشخاص يبدو أنهم لجنة القبول، بينما نرى في عمق الصورة بيانو على المسرح تجلس خلفة عازفة ذات أصول آسيوية، لتبدأ عضوة اللجنة بتعريفنا على المتقدمة روبي مرحبة بها لترد روبي التحية من نفس الزاوية التي نراها ولكن بحجم لقطة أصغر، تنقلنا بعدها هيدر لزاوية أخرى للكاميرا لتعرفنا على القاعة من مكان آخر بلقطة ستُكرر لاحقاً في 3 مواضع أخرى.
ولكي لا تدخلنا في ثرثرة التعريفات تذهب المخرجة إلى بهو الجامعة لترينا بست لقطات تتجاوز في مجموعها الــ 20 ثانية، عائلة روبي التي تقرر الدخول إلى مسرح الأحداث من مكان آخر.
6 لقطات خلال المشهد تجاوزت في زمنها الــ 10 ثوان حتى أن أطول لقطة كانت قبل الأخيرة وبلغت 18.5 ثانية، وهي عبارة عن لقطة قريبة لروبي وهي تغني أغنيتها مترجمة إياها بلغة الإشارة والتي كان لها الأثر الأكبر لدى عائلتها، فيما لم تتجاوز 39 لقطة حاجز الــ 5 ثوان.
تقنية الصوت من خارج الكادر استخدمتها هيدر خلال المشهد في لقطة مشابهة ضمن تكوينها اللقطة التأسيسية، عندما يتدخل برناردو فيلالوبوس (اوخينيو ديربيز) قبل أن يحل مكان عازفة البيانو لعزف موسيقا بوث سايدز ناو لــ جوني ميتشل التي ستغنيها روبي في اختبارها الجامعي.
ولم تتأخر المخرجة بالإجابة عن أي سؤال تطرحه أي لقطة، فعندما تتوقف نظرات برناردو تجاه شيء ما خارج الكادر في اللقطة 30 نعرف في اللقطة التالية أنه يراقب اللجنة التي بدأت تدون ملاحظاتها، ليتعمد الخطأ في العزف في اللقطة التالية ليمنح روبي فرصة ثانية للسيطرة على ارتباكها، وهي ذات الطريقة التي اعتمدتها مع روبي في اللقطة 39 عندما نظرت إلى أعلى لتليها لقطة تشابه في تكوينها اللقطة 3 والتي تظهر دخول عائلتها إلى المكان.
وعموماً بني المشهد على ثلاثة أجزاء، فاستغرق الأول دقيقتين و44 ثانية انتهت بارتباك روبي في أداء الأغنية، فيما لم يتجاوز الثاني ال47 ثانية كانت كافية لندخل الجزء الثالث، والذي كان له الأثر الأكبر بزمن دقيقة و59 ثانية قُدمت خلاله 15 لقطة، استفاضت سيان هيدر زمنياً في معظمها لرصد ردود الأفعال ومنح ايميليا جونز مزيداً من الزمن لإظهار اتقانها للغة الإشارة.
إن ما قدمته المخرجة والكاتبة ذات الــ 45 عاماً في فيلمها Coda منح الفيلم 3 ترشيحات لأوسكار 2022 عن فئات أفضل فيلم _ أفضل سيناريو مقتبس _ أفضل أداء لممثل بدور مساند لتروي كوتسور، وقد يبدو مستغرباً غيابها عن ترشيح أفضل إخراج أو حتى غياب ايميليا جونز عن ترشيح أفضل ممثلة رئيسية، وقد يكون من الظلم عدم حصول هذا الفيلم على أي جائزة.