«سينماتوغراف» ـ لمياء رأفت
على الرغم من السمعة المتواضعة التي تلاحق أفلام الرعب بكونها أفلاماً تجارية تهدف إلى إثارة مشاعر الخوف لدى المشاهدين، فإن بدايتها كانت فنية للغاية، بأفلام جددت فن السينما ولعبت على مشاعر تسكن كل بشري مهما كانت شجاعته، وتحمل طبقات من الأفكار الفلسفية خلف مجازاتها الواضحة.
شهد عام 2022 إعادة النظر في نوع الرعب السينمائي بعدة أفلام مميزة، مثل “لا” (Nope)، و”بيرل” (Pearl)، وأعمال بنصوص فرعية يمكن الاستمتاع بها بنفس قدر النصوص الأساسية المخيفة.
وفي نهاية العام، بدأ عرض فيلم “ناني” (Nanny) على منصة أمازون “برايم فيديو” (Prime Video) بعد حصوله على جائزة التحكيم الكبرى من مهرجان صندانس السينمائي، كأول فيلم رعب يصل إلى هذا التكريم.
فيلم ناني من إخراج نيكياتو أنت وبطولة آنا ديوب، وميشيل موناغان، وسينكوا وولز. وتدور أحداثه حول عائشة المعلمة السنغالية التي تهاجر إلى الولايات المتحدة طامحة في حياة أفضل لابنها الوحيد لاميل، وتعمل مربية أطفال في منزل عائلة بيضاء تنتمي للطبقة الوسطى العليا، وتبدو حياتها آخذة في الاستقرار، لكن ذلك حلم صعب المنال لمن كان في حالتها، فتقع بين رحى الكوابيس المخيفة وتراخي ربة عملها في سداد أجرها.
دأبت هوليود على تقديم أفلام عن المهاجرين، أفلام متعاطفة في أغلب الأحوال لكنها بعيدة عنهم بشكل فعلي، تهتم بمشاكلهم الكبيرة لكن لا تنظر إليهم من الداخل، أفكارهم ومخاوفهم وطموحاتهم.
أفلام تركز على ما حدث لهؤلاء البشر، لكن ليس ما يشعرون به بصورة يومية في مجتمع مختلف عما تربوا فيه بكل طريقة ممكنة.
وفيلم ناني يحاول الخروج من هذا الفخ، فيأخذ جولات مؤلمة في عقل المهاجر الأفريقي بأميركا، ويصنع حبكة ترتكز بشكل أساسي على ما يحدث داخل عقل شخصيته الرئيسية، فهو تجربة بصرية مميزة، خاصة في استخدام الألوان، بالتضاد بين بيت عائشة الغني بالألوان المشبعة وبيت العائلة البيضاء البارد الألوان. ملابسها التي تمزج بين التقليدية الأفريقية والعصرية والمليئة بالحيوية والأناقة، مقابل ملابس السيدة “إيمي” ربة عملها التي لا ترتدي سوى الأبيض والبيج والأسود.
والماء هو “الموتيفة” (النمط) الرمزية الأبرز في الفيلم، فظهورها مرتبط بالحالة النفسية والعقلية لعائشة، كما لو أنها تمثيل حي لما تشعر به، بداية من مجاز الغرق المتكرر، وحتى صوت تساقط الماء الذي يترافق مع ضغط العائلة التي تعمل لديهم، وحتى الخاتمة الحزينة.
ومع الماء “موتيفة” فرعية وهي عرائس البحر التي تمثل جزءًا من الثقافة الشعبية للبطلة المليئة بالسحر والدلالات لكل مخلوقات الأحلام، ويترك لنا الفيلم هنا الفرصة لاستنباط هل هذه العرائس تمثل تحذيرات للبطلة من عقلها الباطن، أم أنها كائنات ما ورائية تحميها كغريبة في أرض غريبة.
رعب فيلم ناني ليس من النوع الذي يفاجئ المشاهدين في محاولة لإيقاف قلوبهم، أو رفع الأدرينالين في عروقهم، بل رعب هادئ يتسلل عبر أحداث بسيطة تقع للبطلة وحدها.
استخدمت مخرجة الفيلم الموسيقى التصويرية لبناء التوتر في المشاهد بدلًا من المؤثرات البصرية التي كانت ستفسد التجربة البصرية الأصيلة للفيلم.
يترك فيلم ناني لدى المشاهد انطباعاً بالوحشة والقلق بدلًا من الخوف والرعب، وهو ما قد يحبط محبي هذا النوع السينمائي المعتادين على رؤية الدماء والأطراف المبتورة.
فالوحش المرهوب هنا ليس واضحًا، حتى وجود العائلة البيضاء لا يمثل تهديدًا حقيقيًا للبطلة قدر ما كان تكديرًا لصفو حياتها. القلق سكن شخصية عائشة نفسها، كساعة داخلية تنبئنا دقاتها باقتراب الخطر الذي لا ندري كنهه.
والفيلم معني بحياة المهاجرة الأفريقية، وهي نقطة التلاقي بين عالمها الأصيل وعالم العائلة البيضاء. وبالإضافة إلى الألوان الباهتة لمنزل هذه الأسرة، نلاحظ اضطرابهم يتضاد مع ثبات عالم عائشة الذي يبدو هشًا لكن مستندًا على ثقافة قوية ومجتمع متعاون.
فأفراد العائلة البيضاء هم روز الطفلة التي تعاني من فقدان الشهية ولا تقبل سوى طعام المربية السنغالي الحريف، والأم المضغوطة في محيط عمل ذكوري لا يقبل نساءه بسهولة، والأب الحاضر الغائب الذي يتحرش بالمربية في لقطة عابرة. تمثل هذه الأسرة وحدة متكررة من المجتمع الأميركي المعاصر، لا يوجد فيها شيء مميز بشكل خاص، لكنها جزء من الضغط الذي تعيشه المربية المثقفة المتحدثة بالإنجليزية والفرنسية بطلاقة، غير أن لون بشرتها هو ما جعلها في مكانة اجتماعية واقتصادية أقل.
أبرز ما في فيلم ناني شخصية البطلة عائشة المهاجرة التي تمتلك الثقة بنفسها وثقافتها وأهدافها، على الرغم من الضغوط التي تتعرض لها من العائلة البيضاء المصرّة على أن مربيتها مجرد وسيلة لجعل حياتها أسهل، ووضعها الاجتماعي والاقتصادي المتدني والكثير من العوامل الخارجية المهددة.
لقد ظهر كل ذلك عبر الأداء الرائع والواثق للمثلة آليس ديوب، التي اعتمد الفيلم بصورة كلية عليها، سواء في لحظات ضعف الشخصية أو قوتها.
قد يكون فيلم ناني محبطًا لشريحة واسعة من الجمهور تتوقع من فيلم تحت عنوان الرعب أشياء مختلفة، لكنه بالتأكيد يترك عند المشاهد شعورًا بالقلق وانعدام الراحة والتأمل في حالة المهاجرين الذين يسعون للحفاظ على ثقافتهم في ظل عالم شديد البياض يظهر تباين المختلفين.