برلين ـ نسرين أحمد
ونحن نشاهد فيلم «بقاء اللطف ـ The Survival of Kindness» للمخرج الأسترالي الهولندي رالف دي هيير، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي (16 إلى 26 فبراير)، يخيل وكأننا نقرأ صفحات كتاب قد يكون عنوانه «العنصرية والاستعمار للمبتدئين»، كتلك الكتب المبسطة التي تعطي معلومات مبدئية مباشرة لمن ليس لديهم خلفية عن علم من العلوم، أو عن قضية من القضايا. ربما كان هدف المخرج أن يقدم تخيلا أنيقا منمقا عن الاستعمار والعنصرية وقبحهما، ولكن ما وصلنا كمشاهدين لم يزد عن درس تعليمي مباشر لا يبقى له تأثير في داخلنا.
يدخلنا الفيلم منذ بدايته في أجواء تشبه الكابوس، في مكان غير محدد الملامح، قد يكون افريقيا أو أستراليا، أو أي من المناطق التي استعمرها الرجل الأبيض. لا يوجد حديث بلغة نميزها، بل همهمات وأصوات غير مميزة تخرج من حناجر رجال ونساء يرتدون أقنعة واقية من الغازات، ندرك أنهم بيض وأنهم يحتفلون، بينما يصوب بعضهم البنادق تجاه مجموعة من السود المكبلين بالأصفاد والمحبوسين في أقفاص. ونتساءل حين نرى هذا القبح المخيف الموجه من البيض إلى السود عن «اللطف» الذي يعنون الفيلم، فما نراه على الشاشة يبعد كل البعد عن اللطف أو بقائه، ويدخلنا في أجواء يعمها الظلم والقهر والقبح. ما نراه على الشاشة هو تصوير مباشر تماما لقهر المستعمر. نجد أنفسنا وسط فضاء يبدو للوهلة الأولى فسيحا، لكنه قاس لا يرحم وسط صحراء قاحلة قد تكون في أي مكان في العالم. تسببت كارثة، ربما كيميائية أو بيولوجية، في حدوث عدوى جماعية والكثير من الوفيات، ما اضطر الناجين من البيض إلى ارتداء أقنعة واقية من الغازات، لكن هؤلاء السادة البيض لا يعنيهم أمر السود أو موتهم بسبب المرض، أو الغازات السامة. هؤلاء السود يكدحون تحت إمرة الرجل الأبيض حتى يقتلهم الإنهاك، أو التعذيب، أو الغازات السامة. موتهم لا يعني الرجل الأبيض في شيء.
يركز الفيلم على امرأة سوداء واحدة، وضعت في قفص انفرادي محكم الإغلاق، كغيرها من السود، خارج منزل يبدو أن من يرتدون أقنعة الغاز يقيمون فيه حفلة غريبة، يتناول البيض كعكة احتفالية تصور انتصاراتهم على أهل المنطقة. وبعد فراغهم من احتفالهم، يقتادون تلك المرأة السوداء، التي لا نعرف لها اسما، داخل قفصها الموصد إلى العراء، إلى منطقة نائية قاحلة، حيث تواجه الموت بلا طعام أو ماء، نرى القبح والقهر والظلم في الفيلم، ولكن هذا الطغيان يأتي مباشرا تلقينيا، فلا يمنحنا فرصة للاستجابة أو التعاطف. تمر أيام وتنقضي ليال ونهارات والمرأة السوداء حبيسة في قفصها، لكنها لا تيأس وتحاول الخروج من القفص، أو تحطيم أقفاله، وتنجح بعد جهد جهيد للخروج من القفص للسير وسط تلك الصحراء القاحلة الممتدة من جميع الاتجاهات. تسير وتسير حافية القدمين، لكنها تجد جثة رجل أبيض تنزع ملابسه منه لترتديها ولكن سرعان ما ينزعها منها رجل أبيض آخر تحت تهديد السلاح. تجد نفسها في نهاية المطاف داخل متحف مهجور يحتفي بالمستعمرين الأوائل ويعرض ملابسهم وأحذيتهم، فترتدي قميصا وقبعة وحذاء من ملابس المستعمرين الأوائل وتواصل المسير. ما تراه تلك المرأة في مسيرتها لا يقل قبحا وقهرا عما تعرضت له من ظلم داخل قفصها الموصد. ترى جثثا لرجال شُنقوا، ومقابر جماعية، وامرأة مغتصبة تصرخ بعد أن سددت سكينا لقلب مغتصبها. تأتينا كل هذه الصور كما لو كنا نتصفح كتابا تعريفيا بالاستعمار. لا ينجح المخرج في أن يخلق بيننا وبين تلك المرأة التي تسير في العراء، أي رابط نفسي، فهي تسير وترى الفظائع وهذا كل ما في الأمر. تحاول أن تفر من الرجال البيض المدججين بالسلاح عن طريق تلوين وجهها بالرماد الأبيض وارتداء قناع غاز يخفي ملامح وجهها، وتلتقي في مسيرتها اثنين تظهر ملامحهما أنهما من الهند، يساعدانها في التنكر والإفلات من الرجال البيض. لكن كل مساعيها ومساعي صديقيها الجديدين تبوء بالفشل ويقبض عليها مجددا للعمل بالسخرة في مصنع يديره البيض.
تصبح رحلة هذه المرأة في الصحراء ومحاولاتها للنجاة شهادة على طغيان المستعمر. إنه عالم مليء بالظلم والقهر، يفرض فيه الرجل الأبيض سطوته لأنه مدجج بالسلاح ولأنه محمي بقناعه من الغازات السامة، التي ربما تسببت فيها محاولاته للحصول على الثروات الطبيعية لتلك الأرض التي يحتلها.
ثم تأتينا نهاية الفيلم، التي لا تحمل نصرا للحرية، فتزيد من شعورنا بأنه لا أمل ولا فكاك من قهر المستبد المستعمر. نشاهد الفيلم فنتساءل عن عنوانه، ربما هو عنوان ساخر، أو ربما هو محاولة من المخرج لإضفاء عمق ما على فيلم يغص بالصور المباشرة والتسطيح. لا بقاء في الفيلم ولا لطف، ما نراه هو محاولة مستميتة من المخرج أن ينجز فيلما يضم سجلا لفظائع الاستعمار والعنصرية، ولكنه سجل على ورقة سريعا ما نطويها مع نهاية الفيلم.