«سينماتوغراف» ـ إسراء إمام
تقول “جيردا” لرجل ما يتموضع منزعجا، متوترا، أمام فرشاتها وألوانها لترسُمه..
“من الصعب أن يألف الرجل تطُّلُع امرأة إليه، لقد اعتادت النساء أن تفعلها لى، ولكن فى حالة الرجال المسألة مختلفة”. تصمت قليلا، ثم تضيف بقسمات متعنتة “على أية حال الأمور ستكون ممتعة بالتأكيد حينما، لا تجد مفرا سوى الخضوع لها”. بعدها، يهم كلب “جيردا” بالتحرك، فتشير ناحيته بحسم، قائلة “اجلس”، فيفعل الكلب منصاعا، مذعنا.
هذه هى “جيردا” امرأة ترسم، تقود، وتجيد المُبادرة. متزوجة من “إينار إيجنار” التشكيلى المُنافس لها بجدارة مهنيا، أما (حياتيا) فسنتحدث عنها لاحقا.
ثمة فيلم اسمه “the Danish girl ـ الفتاة الدنماركية” يحكى عن حدوتة “إينار إيجنار” الرجل الذى تألم من تشوش هويته الجنسية. أما أنا ففضلت أن أبدأ مقالى بالحديث عن “جيردا”، متجاهلة كون “إينار” الشخصية الرئيسية فى فيلمه، لأن فى الحقيقة “جيردا” لم تكن فقط شخصية أساسية فى فيلمه وكفى، بل فى حياته كلها. فبفضل “جيردا” عانى “إينار”، ولولاها أيضا لم يكن ليبلغ حافة الكمال. سأسارع بتوضيح هذا اللغز عزيزى القارىء، ولكن أنت أيضا عليك أن تعدنى بكونك ستتذكر نظرية “جيردا” عن الخضوع، وقدرتها الجلية على تنفيذها.
رجل خاضع وامرأة فى الظِل
“جيردا” فى أحد الأيام طلبت الخروج فى موعد مع “إينار”، لم يُقبّلها هو، بل هى من بدأت فى تقبيله ومن ثم بعدها تزوجته. عاشت مع الرجل والمرأة فيه، أخضعت الرجل، ولم تفتها رؤية خيالات المرأة التى تسكنه، لكن الأولى لم تهتم بقمعها، طالما التزمت الثانية مكانها فى الظل.
فَضّل السيناريو أن يبدأ فصوله الاستهلالية، دون بقعة ضوء ملفِتة على مشكلة “إينار”، نحن نراه رجلاً عاديًّا، يحب زوجته ومن الواضح أنه مخلص لها. الوِد بينهما متصل، وثمة وفاق سريري ملحوظ يجمعهما. هذه الافتتاحية، أكدت فى خُبث خصال شخصية “جيردا”، فـ “إينار” ليس زوجا طبيعيا أبدا، يمكنه أن يحيا بهذه المعادلة المنضبطة جنسيا، وإنما فى وجود “جيردا” أصبح كل شيء ممكنا. “جيردا” أجبرت “إينار” ليقتسم معها علاقة طبيعية، دفعته بمهابة شخصها، وحضور طباعها إلى التمرّغ فى حبها، وروّضت معضلة الهوية الجنسية التى تكمن صدره، مُرجئة إياها إلى وقت قد لا يحين أبدا. لذا فإن هذا السيناريو، دهائي بما فيه الكفاية، يقصص حكايته علينا، مثل أى حكاية عادية، ليشير إلى تفصيلة خفية، قد لا يعيها المُشاهد بسهولة، يهمس لنا بصوت منخفض “إنها جيردا، وحدها من لها الفضل فى هذا”.
فبالرغم من بعض الإيحاءات الهشة، التى مررها إلينا السيناريو فى مشاهده المبدئية، إلا أنها لم تُنقِص مقدار اندهاشنا من مدى سوء تَجّذر وضع “إينار” الجنسى منذ الطفولة. حينها يبوح السيناريو بما كان، ويَشِف لنا عن خيالات تبدو منطقية، بخصوص تصرفات “إينار” السرية. نتذكر تسحبه الأول لخزانة الملابس النسائية مبهورا، ومتلفتا على الدرج مرتعدا من انفضاح نواياه التى لا يعلم عنها غيره. إن المرأة فى داخله لم تمت، ولكنها تراجعت إلى الظل بعد مقابلته “جيردا”. كان رجلا خِصبا على فراشه مع “جيردا” وفى الوقت ذاته، لا يزال يحن للمرأة التي منه. مُشبَعَاً، مستسيغاً قدره إلى حد كبير.
وللغرابة، لم تتفاقم حالة “إينار” إلا بإيعاز من “جيردا”. فحينما داعبت “جيردا” هذه المرأة الخاملة بداخل “إينار”، ووسعت لها حيزا فى حياتهما، نَمَت الأخيرة، وتشبثت بمكانها فى عالم الواقع، دون أن تغادره أبدا. فى البداية، لم تكن “جيردا” لتمانع بطيف هذه المرأة المارق بين الحين والآخر. بل في أحايين كثيرة كانت تستحضرها، وتُشجِعها. وعلى الرغم من أنها فسرت سبب هذا الجنون على لسانها قائلة “ليلى كانت مجرد لعبة”، ولكن يمكننا تكذيب هذا التعَذُر الذى يبدو أقرب إلى المنطق، فى حين بُعده الجلى عن شيم “جيردا”. فقد سبق وامتلأت أنف “جيردا” برائحة “ليلى” (المرأة التى سكنت إينار)، كانت تعلم أن شأنها ليس هينا، وأنها جزء أصيل فى تكوين “إينار”، وقالتها لإينار فى يقين “أنا زوجتك، أعرف كل شىء”. وإنما توقف الأمر على مدى تقبلها لهذه الحقيقة، وهذا بالضبط منبت اضطرابها. ففى المعظم كانت تبغضها، تقلق منها، وتتعمد أن تنحيها، وقد اهتدت إلى هذه المشاعر المحسومة حينما لمست تمرد “ليلى”، واختلافها التام عن مرونة “إينار”. ولكن فى تارات أخرى، لم يتوقف حد ترحيب “جيردا” بـ”ليلى” عند مبدأ التسلية وحسب، ولكنه أيضا ارتبط بالرغبة. “جيردا” امرأة تملك شِقا ذكوريا متبديا، وهذا بالطبع لا ينفى عنها صفة الأنوثة بل يؤكدها من جهة أخرى. ولفَرط تعقيد هذه النقطة، حاول السيناريو الإفصاح عنها فى عدة مواضع ترتبط بالمظهر، حركيا وثوبيا. ففى المشاهد الأولى كنا نرى “جيردا” امرأة رثة الملبس، مُهمَلَة الشعر والمنظر، حادة فى لغة جسدها، ولكنها لم تبدُ لوهلة امرأة غير جميلة أو شاذة نوعا ما، بل أنثى شديدة الجاذبية تميل للتصرفات الذكورية. وفى هذه الفترة بالذات، نلاحظ أن “ليلى” لا تضايق “جيردا” فى شىء، وإنما تثيرها أحيانا، وتستفز فيها عِرقها الذكورى، وقد تبدى هذا فى المشهد الذى ضبطت فيه “إينار” يرتدى قميص نومها، فنراقبها وهى تساير “إينار”، تخلع عنه رداءه بهدوء، ومن ثم تدفعه بعيدا عنها، وحينما يدنو لينام فوقها، تقلب وضعها معه لتكون هى المسيطرة، تتلمسه بيد رجل وكأنه أنثاها المفضلة. لكن، كلما ثبتت “ليلى” قدمها أمام “جيردا”، كلما احتدم الصراع بينهما. فالأنثى فى “جيردا” تغار، وتبدأ فى نبذ “ليلى” ونفيها خارج المحيط الذى يخصها هى و”إينار”، الطلاء فى وجهها وضعه يتحسن، ملابسها تُصبِح أكثر أناقة، وعنايتها بالمرأة فيها بدأ يأخذ منحنى أبرز.
“جيردا” من لجّمّت “ليلى” فى وقت سابق، ولكنها أيضا من أطلق سراحها فى وقت لاحق. “جيردا” من دلت “إينار” على الطريق الصحيح لـ”ليلى”، حتى وإن ضلت هى ذاتها طريقها إليه فيما بعد. ولأنها كانت تحبه بطريقة متفردة، مدت له يد العون حتى وهو يرغب بشدة فى أن يكون “ليلى”. وبَقَت تحبه حتى وهو “ليلى”، فلم تفلح فى خيانته أبدا رغم عدم ممانعته، وحتى آخر أويقات عيشه، لم تكن قد وجدت حياةً أخرى على مبعدة منه.
“توم هوبر” مُخرِج الحواس
“توم هوبر” حينما يصنع فيلما، لا يصنعه لكى يُشاهده البعض وكفى، وإنما ليتعايشوا معه، يختبرون تجربته وكأنها تخصهم، يلتحمون مع وقت عرضه التحاما له إيقاعه الخاص.
“الفتاة الدنماركية ـ the Danish girl” فيلم يتوجه إلى كل حواسك، تتكاتف عناصره جميعا لتبلغ بها النشوة. فـ”توم هوبر” يقود كل شىء لصالح هذه النقطة بالذات، بداية من أداء ممثليه الواقف على الشعرة، والمُهندم إلى أقصى درجة. ومرورا، بالعمل على هوامش السيناريو المُلتبسَة، والتى قد تبدو بسيطة غير متكلفة، بينما تحوى فى طياتها مؤشرات لها دلالتها القوية فى حبكة القصة (مثل تلك التى ذكرتها بشأن شخصية جيردا). ونهاية بالصورة، صورة “توم هوبر” صورة تستحق الدراسة، وعندها يقف القلم، مستعدا لخوض معارك كتابية إضافية قادمة.
كادرات “توم هوبر” تنقسم ما بين الرمزية، والجمالية التشكيلية البحتة..
ففى مشهد يُجرب فيه “إينار” المشى كالنساء، يقف عند آخر الرواق، فى نهاية عدد من الأبواب المنفرجة، ممثلاً تكوينا يحصره بين عدد من البراويز المتداخلة، فى رمزية موحية بمدى شعور “ليلى” فى داخله بالسجن، والكبت.
حينما يفلت” إينار” من ضغط “جيردا” ومحاولتها قتل “ليلى” فيه، يهرع إلى مكان دعارة ليُشاهد امرأة عارية مُلقدا حركاتها لتُساير الأنثى فيه، بدلا من استخدام عُريها كمشهيات لفحولته. وهو فى طريق دخوله إلى المبنى، يلتقط “توم هوبر” اللقطة بعدسة مقعرة بعض الشىء، فتبدو الصورة مُشَوهة مريبة، تعكس ما يشعر به “إينار” فى لحظتها من اضطراب وعطب جسدى ونفسى. بعدها بدقائق، يخلق “هوبر” كادرات إضافية بليغة، تمتزج فيها صورة وجه “إينار” مع جسد المرأة العارضة، وكأنه يتماهى مع طبيعته الحقيقية فيها.
فى كادر لاحق، وبعدما يُستَنزَف “إينار” إثر جولاته الخائبة على الأطباء، يجلس قُرب النافذة فى وقت مُمطِر، يُصَوِره “هوبر” فى بداية المشهد بإطلالة غيمية من خارج الزجاج، يتبدى فيها وجهه ممسوحا تماما، مجرد مسخ دميم، بالكاد يلوح من بين العتمة المحاوطة بوجوده.
كرر “هوبر” نفس التكنيك السابق، فى لقطة تبدى فيها الطبيب وقت إجراء العملية الجراحية التى ستحول “إينار” كليا إلى “ليلى”. فبدا الطبيب واقفا من خلف زجاج غرفة “إينار” بمظهر متلاشٍ غير بيّن، فى إيحاء واضح عن ارتباكه حيال نجاح العملية، وإدراكه التام لنسب إخفاقها العالية.
على المستوى التشكيلى، نجد “هوبر” حاضرا وبقوة، لدرجة تدفعنى طوال الوقت إلى تصديق فكرة أنه يختار خصيصا أماكن جميلة تشكيليا، ليصور فيها مشاهده العادية. مُفضِلا محطة قطار، عن أخرى تقِل عنها جمالا، مكتبة بعينها تتألق أكثر من نظيرتها. ستجد المحطة والمكتبة فى فيلم the Danish girl ولكن بعين “هوبر” التى اختارتها بعناية، لتخلق من ظهورها العابر لوحات جمالية بديعة. حتى منزل “هنركسون” (الرجل الذى كانت تقابله ليلى سرا من خلف ظهر “جيردا”) انتقاه “هوبر” ليكون في حي متناسق الألوان، خاطفا للعين، وسارا للنظر.
تماما، كما يستغل فواصل ما بين المشاهد، ليملأها بعدد من المناظر الطبيعية ليلا، ونهارا. مرئيات لا يمكننا إلا أن نقول فيها شِعرا، مرسومة رسما دون أدنى مبالغة أو تشبيهات فارغة. إن رأيناها بشكل منفصل تماما عن الفيلم، لحسبناها لوحة زيتية، محسوب فيها درجات النور ومساحات الظلام، ولها منهجية واضحة فى التعامل مع الزوايا.
آخر كلمتين:
ـ “اليسيا فايكاندير” ممثلة نَضِرة بتطرف، لها إحساس حاضر ووجه قاتل في تعبيره. من حسن حظ الفيلم أنها من لعبت دور “جيردا”، فالدور وكأنه كُتب لها خصيصا، وحينما ينتابك هذا الشعور، فتأكد أن ممثل الدور عبقري. دور “جيردا” كان سيفقد معناه والكثير من وقعه وطبيعته فى عدم وجود “اليسيا فيكاندير”.
ـ “إيدى ريدماين” ممثل الأدوار الخطِرة، هذا الرجل الفنان الذى لم يعبأ بوقوفه أمام المرآه، دافسا عضوه الذكرى بين فخذيه، متحسسا جسد “ليلى” فى “إينار”. “إيدى ريدماين” أجاد أن يكون “إينار/ ليلى” بموهبة، وجرأة، ومقومات شكلية ساعدته ليبلغ كمال منطق الفكرة نوعا ما.