«سينماتوغراف» ـ انتصار دردير
إنها بإختصار الموهبة والعفوية تسير على قدمين، فإذا كان المصريون يتمنون دوماً أن يبعث عبد الحليم من جديد لعالم الغناء فإن سعاد حسني هى الاختيار الأول للبعث في مجال السينما، ولا دليل على مدى عشق المصريين لها سوى أن جمهورها ظل ينتظر عودتها أمام الكاميرات مرة أخرى بفارغ الصبر على مدار سنوات المرض العشرة الأخيرة من حياتها، وبعد وفاتها عام 2001 بالعاصمة الانجليزية لندن، وحيث يحل اليوم الذكرى الـ (23) لوفاتها، أيقن الجميع أن «زوزو» أضحت كالحلم الجميل الذي يصعب تكراره مرتين.
لم يكن يتوقع الكاتب الكبير الراحل عبد الرحمن الخميسي عندما اختار سعاد حسني بنت الـ17 عاماً لبطولة فيلم «حسن ونعيمة» أن تكون هذه المراهقة هى أسطورة السينما العربية على مدار ثلاثة عقود كاملة، حيث لم تكن لسعاد حسني مع مطلع عام 1959 أى صفة سوى إنها الشقيقة الصغرى للمطربة نجاة الصغيرة، التي لم يسبق لها دخول المدرسة من قبل، ولكنها تمكنت بمفردها من إتقان القراءة والكتابة والحديث بلغتين أجنبيتين، لتضعها الصدفة في طريق صديق العائلة عبد الرحمن الخميسي الذي كان يستعد تحويل مسلسله الإذاعي الشهير آنذاك «حسن ونعيمة» إلى شاشة السينما، واستقر على بركات مخرجاً وعلى المطرب محرم فؤاد في دور حسن، ليقع في غرام وجه سعاد حسنى الطفولي البرئ، لترحب سعاد بخوض التجربة دون انتظار للنتائج، ولكن التجربة أسفرت عن مسيرة سينمائية هى الأكثر نجاحاُ لنجمة بالسينما المصرية والعربية على الإطلاق.
كان التوقيت الذي ظهرت فيه سعاد حسني بالغ الأهمية في إكمال مسيرتها فالمجتمع المصري بتغيراته العاصفة مع بداية عقد الستينات كان له رأى آخر في بطلات أفلامه، إنه كان وقتاً نموذجياً لنادية لطفي وزيزي البدراوي وليلى طاهر وبالطبع سعاد حسني التي جسدت فتاة الستينات بكل أنماطها وتقلباتها وأفكارها التحررية، ولكن هذا لم يأت بين وليلة حيث ظلت سعاد على مدار خمسة أعوام كاملة «دمية المنتجين» التي تتنقل في أدوار الفتاة المغلوبة على أمرها أو المراهقة التي تعاني من تقلب أحوالها العاطفية مع وجود بوادر ميول تمرد وضعها الحالي، وإن كانت تجدر الإشارة إلى وجود بعض الاستثناءات الخاصة ببعض أدوارها المميزة في تلك الفترة مثل دور عزيزة في «السفيرة عزيزة» (1961)، أو دور الطالبة المراهقة عطيات في «غصن الزيتون» (1962)، ولكن نقطة التحول الحقيقية في حياة سعاد حسني كان في تعاونها للمرة الأولى مع المخرج صلاح أبو سيف في فيلم «القاهرة 30» (1966) والذي قامت فيه بدور إحسان الفتاة الفقيرة الممزقة بين ثلاثة رجال يمثلون واقعها وأحلامها ومصيرها الذي سينتظرها، وهو دور لم تكن سعاد تحلم بأن تقوم به وهى التي كانت بطلة فيلم مثل «صغيرة على الحب» الذي كان نموذجاً لسعاد ما قبل القاهرة 30.
وكان فيلم «الزوجة الثانية» في العام التالي مع صلاح أبو سيف أيضاً تأكيداً لنجاح سعاد في الإفلات من الفخ التجاري الذي كانت على وشك أن تسقط فيه، فقد حقق الفيلم نجاحاً بالغاً بصورة سعاد الجديدة فيه كفتاة ريفية ماكرة تنجح في الانتقام من عمدة قريتها، بعد أن تسبب في تطليقها من زوجها طمعاً في الزواج منها بغرض إنجاب الابن الذكر المنتظر، وبعدها تحولت سعاد إلى الجانب الآخر تماماً من شخصيتها في الأفلام التالية وخاصة مع المخرج كمال الشيخ كما في دور ناهد الفتاة التي تعاني إنفصام الشخصية في «بئر الحرمان» (1969) مروراً بدور مديحة الخائنة لزوجها ولعائلتها الأرستقراطية في فترة ما قبل الثورة، ولن يفوتنا الإشارة إلى دوريها المثيرين للجدل عام 1971 في «زوجتي والكلب» و«الاختيار» مع يوسف شاهين.
عام 1972 كان عام «زوزو» بلا منازع فقد تحول فيلم «خلي بالك من زوزو» لحسن الإمام من مجرد فيلم عادي إلى أسطورة تجارية استمرت قرابة العام في دور العرض دون إنقطاع ، فقد تعرف الجمهور في هذا الفيلم على سعاد حسني الممثلة والمغنية والراقصة القادرة على التحول في طبيعة شخصيتها في أي لحظة وذلك مع دور زينب الفتاة الجامعية التي لا تخجل كونها قادمة من عالم العوالم والغوزاي، ولكن يبدو أن المجتمع يريدها أن تعاني هذا القدر بعد أن يعرض علاقتها مع فتى أحلامها الثري للخطر، ويرى البعض إنه إذا كان الفضل يعود لأحد في تقديم سعاد بهذه الحيوية والعفوية بفيلم «زوزو» فإنه يرجع لصديقها وفيلسوفها الشخصي صلاح جاهين الذي ساهم في كتابة العمل وألف كلمات أغاني الفيلم التي أصبحت على كل لسان بعد الفيلم.
كانت بقية سنوات السبعينات بالنسبة لسعاد حسني تأكيداً لتربعها على عرش نجمات السينما المصرية على الرغم من قياماها بالعديد من الأدوار الجادة ذات الطابع الإجتماعي الجاد أو السياسي في بعض الأحيان كدورها الشهير في فيلم كمال الشيخ «على من نطلق الرصاص» (1975) و«الكرنك» في نفس العام مع زوجها السابق المخرج علي بدرخان، ثم «شفيقة ومتولي» مع بدرخان عام 1978 في دور شفيقة الريفية في منتصف القرن التاسع عشر الفقيرة التي تصبح عشيقة الجميع بعد تبدل حالها عقب سفر شقيقها متولي في حفر قناة السويس، لتواجه مصيرها المأساوي عقب عودة شقيقها إلى البلدة، وكعادتها دوماً كانت سعاد موفقة للغاية في اختيار خطواتها التالية بعد أن قفزت في قطار المخرجين الجدد بالثمانينات من أمثال سمير سيف ومحمد خان حيث قدمت معه واحد من أفضل أدوراها على الإطلاق وهو فيلم «موعد على العشاء» (1981) والذي أدت فيه دور زوجة مسحوقة من زوجها المتبلد الاحساس تقيم علاقة عفوية مع شاب بسيط يعمل كوافير، وهى الفعلة التي لن يقف أمامها الزوج مكتوف الأيدي، فيعصف بالشاب ويقتله، مما يضطر الزوجة للانتقام من زوجها ومن نفسها أيضاً.
ظلت مكانة سعاد على الساحة السينمائية محفوظة خلال سنوات الثمانينات، ولكن الصدمات بدأت في التوالي عليها مع وفاة فيلسوفها صلاح جاهين عام 1986، والذي كان أشبه ببوصلتها الفنية طوال حياتها، ولم يمر عامان آخران حتى بدأ تخبطها مع الفشل التجاري الكاسح لفيلمها «الدرجة الثالثة» (1988) للمخرج الشاب آنذاك شريف عرفة، وهو العمل الذي تسبب في اعتزال سعاد حسني العام لمدة ثلاثة سنوات كاملة قبل أن يقنعها بدرخان للظهور مجدداً وللمرة الأخيرة في حياتها مع فيلم «الراعي والنساء» والذي «رمم» بعض آثار التصدع الذي حدث بين سعاد وجمهورها، ولكن هذا القبول لم يكن بالأمر الكافي لدعم «زوزو» في مواجهة فترة مرض بالغة طالتها فترة عشرة سنوات قبل سقوطها المأساوي من شرفة منزلها في لندن عام 2001، وهى النهاية التي مازال الغموض يكتنفها كالغموض الذي ظل يكتنف حياتها ويحيط بسر موهبتها الطاغية.