دبي ـ إبراهيم الملا
تواصل جمهور الدورة الـ13 من مهرجان دبي السينمائي الدولي، مساء أمس الأول، مع عرضين من العيار الفني الثقيل، ضمن برنامج «سينما العالم»، جاء الفيلم الأول من الأرجنتين بعنوان «المواطن الفخري»، مصحوباً بصيت إعلامي كبير، بعد فوز الممثل الرئيس في الفيلم ــ أوسكار مارتينيز ــ بجائزة أفضل ممثل بمهرجان فينيسيا الإيطالي قبل أشهر من الآن.
أما الفيلم الثاني: «حيوانات ليلية» فجاء من الولايات المتحدة بتوقيع المخرج توم فورد، أحد المبدعين القلائل الذين جمعوا بين الإخراج السينمائي وتصميم الأزياء، وهو الفيلم الثاني لفورد بعد فيلمه الطويل الأول «رجل أعزب»، المتوّج بجوائز عديدة في المهرجانات الدولية التي شارك بها.
سخرية داكنة
يتناول فيلم «المواطن الفخري» للمخرجيْن الأرجنتينييْن غاستون دوبارت، وماريانو كون، وفي قالب روائي طغت عليه الكوميديا السوداء والسخرية الداكنة، قصة الكاتب دانيال مانتوفاني، الذي هجر قريته الصغيرة سالاس في الريف الأرجنتيني عندما كان في العشرين من عمره، بعد وفاة والدته، واختار أوروبا، ومدينة برشلونة الإسبانية تحديداً للإقامة، والتفرغ لكتابة القصص والروايات الساردة لتفاصيل وذاكرات الطفولة والمراهقة والشباب في قريته البعيدة تلك، وبعد أربعين عاماً من النتاجات الأدبية الوافرة، وذات الخصوصية اللاتينية المشحونة بالعاطفة والحنين والنقد والتهكم، يترشح مانتوفاني للفوز بجائزة نوبل للآداب، حيث يفتتح المشهد التأسيسي في الفيلم على اللحظة التي يلقي فيها كلمته في مراسم التتويج بالعاصمة السويدية ستوكهولم، ومع انتهاء خطابه يتشكل لدينا انطباع مباشر حول شخصية مونتافي، المتمردة على بروتوكولات التكريم الثقافية الموسومة بالنفاق والمحاباة، وهو ما يتوضّح لاحقاً وبقوة في المشاهد التالية للفيلم، عندما يتلقى دعوة لزيارة بلدته سالاس، بعد خمس سنوات من حصوله على جائزة نوبل، كي يتم تكريمه وتقليده ميدالية المواطن الفخري، بالإضافة للمشاركة في احتفالات المدينة بُعيد تأسيسها، حيث يتردد مونتافي في تلبية الدعوة، لكنه يتخذ القرار الذي وصفه بالأصعب في حياته، عندما يسافر وحيداً إلى أرض طفولته، واكتشاف التغيرات الثقافية والاجتماعية التي طرأت على البلدة، بعد أربعين عاماً من الغياب، والانقطاع الحسي عن كل ما كان يجمعه بأقربائه وأصدقائه هناك.
قسّم مخرجا الفيلم الأجزاء السردية في العمل إلى أربعة أجزاء، فيما يشبه فصولاً لرواية بصرية محكمة، جمعت بين السخرية والرصانة، وبين الحنين الملتبس والصدمة الذاتية، وامتاز الفيلم أيضاً بأداء قوي وجامح من قبل الممثل أوسكار مارتينيز، ولم يخل هذا الأداء من عفوية طاغية، ومن استرسال مروّض، وموظف جيداً لخدمة المسار المتدرج لأجزاء الفيلم الأربعة، نحو الذروة الصادمة والموجعة في النهاية.
جرائم مزدوجة
أما فيلم (حيوانات ليلية) للمخرج توم فورد فيتناول، ضمن مناخ سردي غامض، وذي مستويات مركّبة ومتماوجة، قصة الفنانة سوزان ــ الممثلة آيمي آدامز ــ التي تملك صالة عرض فنية في لوس آنجلوس، وتفاجأ بمخطوط رواية يرسلها زوجها السابق الذي انفصلت عنه قبل 19 عاماً، ومع قراءتها لأولى صفحات الرواية، يبدأ المخرج بإقحام المشاهد في الحيّز الدموي والمخيف للرواية، وسط انتقالات مشهدية متناوبة بين واقع الحياة الذي تعيشه إيمي، وبين الصورة التخيلية في الرواية، تتشكل الحكاية الثالثة في الفيلم حول العلاقة القديمة بين سوزان وطليقها إدوارد ــ الممثل جايك غيلنهال ــ وتبدو البصمات الأنيقة للمخرج واضحة بين هذه المستويات السردية الثلاثة المتراوحة، بين الحقيقة والافتراض واستعادات الذاكرة.
تزخر الرواية بصور لاهثة، وحبكة مثيرة، تتناول قصة عائلة مكونة من أب وزوجته وابنته، تقوم عصابة من المجرمين بمطاردتهما ليلاً في الطريق السريع، حيث تنتهي هذه المطاردة الضارية بهروب الأب من قبضة العصابة، وقتل الأم والبنت، بعد الاعتداء عليهم بوحشية، وفي الجانب السردي الآخر من الفيلم نتلمّس الطبقة الخشنة من العزلة التي تعيشها سوزان، على الرغم من ثرائها.
تقرر سوزان في النهاية العودة إلى طليقها، وسرد روايتها الخاصة، بعد كل هذه السنوات الطويلة من الصمت والأسى وسوء الفهم. لكن خاتمة الفيلم تأخذنا إلى مسار آخر مفتوح على التأويل من خلال لقطة واسعة وذكية يعتمدها المخرج، حيث تتمدد فيها العزلة المحيطة بسوزان، وكأنها تقبع وسط محكمة غير مرئية، تشارك بها حشود من الذكريات المرة، وأكثر من شاهد يضع أخطاءها القديمة على طاولة النقاش والتشريح، لأنه وكما قال طليقها مرة: «عندما تحب شخصاً، يجب أن توجه كامل اهتمامك له، لأنك إذا فقدته، لن تعثر عليه أبداً».