ـ إبراهيم الملا
يعمل المخرج اليوناني يورغوس لانثيموس على استدراج المشاهد لفيلمه الجديد «قتل الغزال المقدس» من خلال كادرات بصرية أنيقة ومحكمة، ولكنها تنزاح وتتسلل إلى قصة محاطة بالألغاز والتكهنات، فهو يقودك إلى فخ لامع، ومصيدة فارهة، ويقدم منذ البداية إعلاناً استباقياً ماكراً عن بضاعة مخبأة في صندوق مغر ومزخرف، ولكن عليك أن تتحمل النتائج المترتبة على فتح الصندوق، أيا كانت هذه النتائج، لأنك اتخذت قراراً لا مجال للتراجع عنه.
سبق للمخرج تقديم فيلمين من الطراز الفني الرفيع، هما «دوغ توث» و«لوبستر»، الفيلم الذي شارك في بطولته الممثل الشهير كولين فاريل، الحاضر للمرة الثانية في هذا العمل الضاري والقاسي والمدوّخ الذي شاهده جمهور النسخة 14 من مهرجان دبي السينمائي مساء أمس الأول.
يستعين المخرج بجانب زميله كاتب السيناريو اليوناني «إفتيميس فيليبو» بالأساطير الإغريقية القديمة ليقتبسا منها عنوان الفيلم الجامع بين الرهبة والانصياع، وبين الجاذبية والرعب، في إشارة إلى أسطورة «إيفيجينايا» ابنة «أجاممنون»، الذي اضطر لتقديمها كأضحية إلى «أرتميس» عندما كان الأسطول اليوناني في طريقه إلى حرب طروادة في حكاية تعود إلى ما قبل خمسمائة عام من ميلاد المسيح.
يبدأ الفيلم بلقطة مقربة على قلب بشري مفتوح في غرفة العمليات، ثم تنتقل الكاميرا بشكل متأن وهادئ نحو الجرّاح المشهور ستيفن ميرفي ــ يقوم بدوره كولين فاريل ــ الذي يتخلص بعد انتهاء العملية من ملابس الجراحة والقفازات الملوثة بالدم، ونراه في المشهد التالي، وهو يحاور صديقه أخصائي التخدير في ممرات المستشفى حول ماركات الساعات الثمينة، ورغبته في استبدالها مكان ساعته القديمة، تتحرك الكاميرا بشكل انسيابي يضج بالحركة والحياة وسط هذا المشفى الراقي الأشبه بكاتدرائية فخمة أو فندق بمواصفات عالية.
يعود الجرّاح إلى منزله الواسع والنظيف، قرب البحيرة والغابات المشذّبة، ويشرع مع عائلته الصغيرة في أداء الطقوس البورجوازية المعززة بإتيكيت الطبقة الثرية الأنجلو- أميركية، تضم عائلة الجراح، زوجته «آنا» وهي طبيبة عيون ــ تقوم بدورها نيكول كيدمان، بجانب طفلتهما المراهقة كيم، وشقيقها الأصغر بوب.
هذا التمهيد الشكلي، وهذه المشاهد الباذخة ستكون الواجهة المخادعة للتسلسل الدموي والمروّع في الخطوط السردية التالية بالفيلم، وتحديداً مع دخول الفتى المراهق واليتيم «مارتن» في حياة العائلة، وعمله المتواصل على خدش هذا الصفاء أو التناغم الذي يطبع سلوكيات العائلة من الخارج، ستكون بداية التعرف على مارتن ــ يقوم بدوره باري كيوغان ــ بعد لقائه الجرّاح ستيفن في استراحة المستشفى، ومن خلال اللقاء تتوضح الصلة الخفية التي تجمعهما، والمتمثلة في موت والد مارتن بعد عملية قلب مفتوح يجريها ستيفن، وتتعدد التكهنات حول فشل العملية، فهناك من ينسبها لإهمال طبيب التخدير، وهناك من يراها نتيجة طبيعية لمضاعفات المرض، بجانب تفسير يبدو غريباً وهو إجراء الجراح مارتن للعملية وهو تحت تأثير الكحول، ولكن مع تواصل الأحداث بعد هذا اللقاء يبدو أن التفسير الأخير هو الأقرب للحقيقة، خصوصا أن الاهتمام الزائد من قبل مارتن بهذا الصبي اليتيم والغريب الأطوار، ينمّ عن رغبته في إسكات ندمه، وتعويض الفتى باهتمام أبوي بديل يعيد له شيئا من الاتزان النفسي، والفراغ العاطفي.
تبدأ اللحظة الحرجة في الفيلم عند زيارة مارتن للعائلة، وانكشاف رغبته الشيطانية في ضرورة تعويض الدم بالدم، من خلال إدخال الطبيب وعائلته في متاهة من الشكوك والتخيلات الشرسة، لما يمكن أن يبدر منه كردة فعل انتقامية تجاه ما حدث لوالده، وتجاه العذابات التي تعاني منها والدته التائهة والمحطمة.
وانطلاقاً من هذه الانعطافة السردية الخطرة يبدأ المخرج بإقحام المشاهد في حيّز سيكولوجي خانق، وفي نفق قاتم من التحولات المفزعة في حياة العائلة، حيث يصاب الابن «بوب» بشلل مفاجئ لا يجد له الأطباء تفسيراً، ثم تصاب شقيقته بذات المرض، ومن دون أسباب واضحة أيضا، وتصاب حياة العائلة نفسها بالشلل أمام هذه الظاهرة الغريبة، التي تضع الجميع أمام حيرة كبرى، لا يملك أمامها الأطباء سوى تفسير أخير، وهو إصابتهما باضطراب نفسي شديد يؤدي إلى انتكاسات عضوية، وفي الجانب المقابل، يبوح مارتن للطبيب بقدرته على تصفية أفراد عائلته واحداً تلو الآخر عن بعد، ومن دون أي تدخل فيزيائي عنيف، ويشير له بجرأة وصراحة، أن المرحلة التالية للشلل ستتمثل في انقطاع رغبة بوب وكيم في تناول الطعام، ثم حدوث نزيف في العين، وأخيراً الموت، وستصاب الأم كذلك بذات الأعراض، ولا يترك مارتن حلا آخر أمام الطبيب سوى التضحية بأحد أفراد عائلته للتخلص من تبعات هذه اللعنة ونتائجها الكارثية.
ومع تفاقم الحالة السيئة لأبنائه، يضطر الطبيب لاحتجاز مارتن في البهو السفلي لمنزله وتعذيبه، أملا في الخلاص من هوس مارتن التدميري والمفرط في جانبه العقابي، تبوء هذه المحاولة بالفشل عندما يصر مارتن على تنفيذ اقتراحه المخيف، موضحاً أن موته لن يوقف هذا التسلسل المؤدي قطعا إلى فناء العائلة برمتها، وبعد جلسة تعذيب أخرى أكثر عنفا، تتعاطف الفتاة مع مارتن، وتتسلل زحفا إلى البهو بعد نوم العائلة كي تخلصه من الأسر، ومع نفاد كل الحلول الأخرى البديلة، يضطر الأب إلى تنفيذ الحل الشيطاني والتضحية بأحد أفراد العائلة كي تنجو البقية، ومن خلال انتقاء عشوائي يصبح الطفل بوب هو القربان المقدّس لشهوة الانتقام العارمة والطاغية في دواخل مارتن.
تميز فيلم «قتل الغزال المقدّس» بمنهجيته المدروسة في معالجة القصص المروعة وأخذها إلى مناخ حرّ من التنويع الفني والأدائي، ومن الديناميكية البصرية الآسرة رغم بشاعة المحتوى، استثمر المخرج كذلك البيئة الخارجية التي تتشكل فيها أحداث القصة لتكون منصة للقفز إلى الأعماق الإنسانية الغامضة، واستدعاء نوازع الشر التي تعمل الأقدار والظروف القاهرة أحيانا على تغذيتها ونقلها من مجرد فكرة وأمنية للانتقام، إلى واقع حقيقي قادر على تحويل حياة الضحايا المرصودين إلى جحيم متواصل، وإلى ضراوة لا يمكن رصد حدودها أو التكهن بمآلاتها الصادمة.