كان ـ «سينماتوغراف» : متابعات
انتهت الدورة الـ75 من مهرجان “كان” السينمائي أمس مع فوز “مثلث الحزن” لروبن أوستلوند بـ”السعفة الذهبية”، وبهذا يدخل المخرج السويدي البالغ من العمر 48 عاماً نادي الذين نالوا الجائزة الشهيرة مرتين في حياتهم، على غرار فرنسيس فورد كوبولا وأمير كوستوريتسا أو كن لوتش. آخر حضور لأوستلوند على الكروازيت كان في العام 2017 بفيلم “الميدان” ويومها فاز بـ”السعفة”. خالفت لجنة التحكيم برئاسة الممثّل الفرنسي فنسان لاندون كل التوقّعات التي كانت ترجح فوز أفلام أخرى منها “قرار المغادرة” للكوري بارك تشان ووك أو “أخوان ليلى” للإيراني سعيد روستائي. وكالعادة، انتشرت ترجيحات كثيرة ومتضاربة قبل موعد إعلان الأفلام الفائزة، لكن أعضاء لجنة التحكيم كان لهم رأي آخر، علماً أن العملية كلها جرت بسلاسة في جو من النقاش الإيجابي واحترام رأي الآخر كما أعلن لاندون، وفيما يلي قراءة موقع «إندبندنت» لجوائز مهرجان كان 2022.
اليخت القبطان
في “مثلث الحزن”، يواصل أوستلوند “مهمته” الاستفزازية وأسلوبه الهدام والتخريبي والفوضوي في نقل الواقع المعاصر والتعليق عليه. بعدما صوّر خفايا عالم الفن والمعارض والتجهيز في “الميدان”، قرر التعرض لأصحاب الجاه والمكانة الاجتماعية. يبدأ الفيلم بمقابلات يجريها مذيع مع عارضي أزياء. ما نعتقده لوهلة أنه سيكون اقتحاماً منظماً لعالم الموضة والمظاهر والسطحية. ولكن سرعان ما يتحول إلى شيء آخر، ما إن نحط على يخت فخم، يعج بعدد كبير من أصحاب الثروات الذين يمضون عطلتهم برفقة زوجاتهم. على غرار المخرج النمسوي ميشائيل هانيكه، لا يملك أوستلوند الكثير من الحنان تجاه ناسه، بل لا يوفّر مناسبة لتمريغهم في الوحل. ويبلغ فنه ذروة جديدة خلال مأدبة العشاء التي تأتي على شرف قبطان اليخت. فخلاله سيفقد الأثرياء كل ما يصنع بريقهم. بيد أن المفاجأة الكبرى هي أن اليخت يقوده قبطان سكير (وودي هارلسون) لديه ميول ماركسية صريحة لا يخفيها. مع هذا العمل الذي لا يرقى فنياً إلى فيلمه السابق، يفكك أوستلوند خطاب الليبرالية كاشفاً الفروقات الاجتماعية، ومركزاً على النفاق الغربي على طريقته الخاصة جداً، من وجهة نظر فنان يقف في منتصف الطريق بين معكسري اليمين واليسار.
أكبر مخرجة وأصغر مخرج
“الجائزة الكبرى” أو “الغران بري” كما يُقال بالفرنسية، ذهبت إلى فيلمين بالمناصفة، وهذا يعني أن اللجنة وجدت نفسها أمام استحالة الحسم لمصلحة عمل واحد، فربحها كل من الفرنسية كلير دوني عن “نجوم الظهر” والبلجيكي لوكاس دونت عن “كلوز”، مع التذكير أن نحو نصف قرن من التجربة يفصل الفائزين. ففي حين دوني هي من أكبر المرشّحات سنّاً داخل المسابقة، فإن دونت أصغرهم إذ لا يتجاوز الحادي والثلاثين من العمر. “نجوم الظهر” فيلم مصنوع على غرار بعض الأنواع السينمائية التي سادت في الثمانينيات، مع الفرق أن دوني استبدلت البطل التقليدي ببطلة، وهي هنا صحافية أميركية تاهت في نيكاراغوا، في زمن الانتخابات، بلا مال وبلا جواز سفر، وعليها أن تتدبّر أمرها كيفما اتفق، قبل أن تتعرف على سائح إنجليزي يساعدها في عبور الحدود إلى أميركا. لم ينل الفيلم إعجاباً كبيراً من جانب النقّاد، ومع ذلك وجدته لجنة التحكيم أهلاً لثاني أهم جائزة في المهرجان. في المقابل، نال “كلوز” للوكاس دونت إستحساناً كبيراً ونال نصيبه من المديح. يروي الفيلم علاقة قوية بين صبيين، لا ينفصل أحدهما عن الآخر بتاتاً. يكتشفان تفاصيل الحياة معاً في قريتهما الواقعة في الريف البلجيكي، ولكن مع بداية الفصل الدراسي، يثير سلوكهما غير التقليدي الشكوك والريبة. يبدأ بعض رفاقهما في طرح أسئلة محرجة عليهما عن ميولهما الجنسية، وتبدأ من بعدها رحلة فقدان البراءة التي ستفضي إلى مأساة.
جائزة الإخراج أُعطيت للمخرج الكوري الجنوبي بارك تشان ووك الذي كان يستحقها بجدارة. فيلمه “قرار المغادرة” عن محقق يقع تحت سحر امرأة مشتبه بها، وهذا كله سيتسبب للشرطي بحال من الإرباك والإصرار على فك اللغز. لا يفهم ماذا يحل به وكيف يضع حداً لهذا الانجذاب الذي يقف عائقاً بينه وبين ضميره. الإخراج يحمل بصمات معلّم، والفيلم لا يصنف، فالجو ضاغط ضمن معالجة سردية تحتاج إلى مشاهدة ثانية لفهم كل التفاصيل.
سيناريو “صبي من الجنة”
جائزة السيناريو أُسندت الى المصري السويدي طارق صالح عن “صبي من الجنة”، وشكّل هذا صدمة كبيرة لمن وجد الفيلم ركيكاً. فالكتابة السينمائية السطحية هي أسوأ ما فيه. الفيلم يقدّم معالجة ضحلة للعلاقة بين الأزهر والسلطة المصرية المتجسدة في الأجهزة الأمنية، يتوجه بها المخرج إلى الجمهور الغربي، وهو متأثر بـ”اسم الوردة” لإومبرتو إيكو، وقال في المؤتمر الصحافي إنه يكره الاخراج، وكان في البداية يفكّر في كتابة رواية عن هذا الموضوع.
جائزة لجنة التحكيم هي الأخرى جاءت مناصفة. ذهبت إلى كل من البولندي الكبير يرجي سكوليموفكسي عن فيلمه “هي هان” الذي يصوّر مغامرات حمار بعد الاستغناء عن خدماته في سيرك بعد اقفاله استجابةً للإحتجاجات ضده من المدافعين عن حقوق الحيوان. فيلم غريب قدّم به المخرج الثمانيني أكثر من عمل غير مألوف في مسابقة هذا العام. أما الفيلم الذي تشارك معه الجائزة، فهو “ثمانية جبال” للثنائي البلجيكي فيليكس فان خرونينغن وشارلوت فاندرمرش اللذين اقتبسا رواية إيطالية عن علاقة تنشأ بين صبي من الريف وآخر من المدينة، يتعرف أحدهما على الآخر في عمر المراهقة، ثم يلتقيان مجدداً بعد 30 سنة ليبنيا بيتاً وسط الطبيعة.
الأفريقيان يفوزان
احتفاءً ببلوغ المهرجان دورته الخامسة والسبعين، تم ابتكار جائزة تحمل الرقم 75، وكانت من نصيب الأخوين البلجيكيين لوك وجان بيار داردن اللذين قدّما مع “توري ولوكيتا” واحداً من أجمل أفلامهما. الفيلم عن فتاة وصبي مهاجرين من بنين، لوكيتا في الثامنة عشرة وتوري في الثالثة عشرة، يدعيان أنهما شقيقان. لكن السلطة البلجيكية ترفض طلب لوكيتا للجوء. ما يأتي بعد ذلك سلسلة من التحديات التي يمر بها الشخصان ليستحقا مكانهما في الجنة الأوروبية. وهو مناسبة للداردن لمواصلة مهمتهما في نقل المهمشين من الهامش إلى المتن.
جائزة التمثيل واحدة من أكثر الجوائز التي تصبح مادة للترجيحات في كل دورة من دورات “كان”. لكن، مرة جديدة لم تصب توقّعات النقّاد، ففازت الإيرانية زار أمير إبراهيمي بجائزة أفضل ممثلّة عن دورها في “عنكبوت مقدّس” لعلي عباسي (سويدي آخر – من أصل إيراني) في حين ذهبت جائزة أفضل ممثّل للكوري الجنوبي سونغ كانغ هو عن دوره في “بروكر” لكوريه إيدا.
على هذا النحو اختُتمت دورة كان الذي أغلب الظن أنها ستثير النقاش حول إذا ما كانت قوية أو متوسطة أو رديئة، في مقالات نقدية مستفيضة، لكن عموماً لا يمكن الخروج بتقييم شامل ونهائي ونحن لم نشاهد كل الأفلام في كافة الأقسام والتي يتجاوز عددها المئة. في المحصّلة، وبعيداً عن المشاهدة التي وفّرت قدراً من المتعة وجرعة من الثقافة والفن وشكّلت نافذة على العالم بين ماضيه وحاضره ومستقبله، بدا واضحاً ميل اللجنة إلى المعيار الفني إذ لم تقع في فخ تقييم السينما من منطلقات سياسية وإيديولوجية. الخاسر الأكبر كان شمال القارة الأميركية. لا جيمس غراي ولا ديفيد كروننبرغ نالا أي شيء، على الرغم من أهمية ما قدما، في حين تربعت السويد وبلجيكا على عرش الجوائز.