القاهرة ـ «سينماتوغراف»
يتناول كتاب «الاقتباس من الأدب إلى السينما» للناقدين سلمى مبارك ووليد الخشاب العلاقات المتشابكة بين السينما المصرية والآداب التي اقتبست منها أهم أعمالها، حيث لعب اقتباس الأدب دوراً هاماً في توسيع قاعدتها مع إنتاج ما يقرب من 360 فيلماً مستمداً من الأدب العربي والغربي ما بين عامي 1930 و2019.
وقد بنى الكتاب إطاره النظري على الندية بين الأدب والسينما، ورفض اعتبار أحد الوسيطين أكثر أهمية أو قيمة جمالية، وانشغل بالتفاعلات والعلاقات الدينامية بين الفنين، مقراً بتعايشهما وبالتأثير المتبادل بينهما منذ فوران بدايات الحداثة المصرية.
يدرس الكتاب ظاهرة الاقتباس في تاريخ الأدب والسينما في مصر بهدف رسم معالم الطريق الذي جمع بين الوسيطين وتحديداً من المحطات الكبرى للقائهما، والتأسيس لرؤية التجاور بين الفنين ورصد حركة تفاعلهما منذ الفوران الأول الذي صاحب بدايات تيار الحداثة، وجاء ذلك انطلاقاً ولادة فن الرواية في الأدب العربي بمعناه الحديث.
ويقول المؤلفان «ولد فن الرواية ما بين نهاية القرن التاسع وبدايات القرن العشرين، في هذه المرحلة وبالتحديد عام 1896 أقيم العرض الأول لسينماتوغراف الأخوين لوميير بالإسكندرية، بينما تم نشرت رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل 1913 التي تعد من منظور الكثيرين الرواية المصرية الحديثة الأولى، قبل عشر سنوات من عرض أول مصري لفيلم روائي قصير من إخراجه وتصويره وإنتاجه «برسوم يبحث عن وظيفة» سنة 1923 لمحمد بيومي».
يعد الكتاب الذي صدر أخيراً عن دار المرايا بالقاهرة وضم اثني عشر فصلاً تتويجاً لمسيرة طويلة من العمل المشترك بين مبارك والخشاب اللذين قاما بجمعه وتحريره والمشاركة فيه، وهو نتاج تطوير لمجموعة من الأبحاث التي قدمت باللغتين العربية والفرنسية إلى المؤتمر الدولي الأول من تنظيم شبكة آمون للباحثين في الأدب والسينما بجامعة القاهرة، والذي أقيم في نوفمبر 2019. وشكل أول فاعلية أكاديمية من هذا النوع تتخذ من السينما موضوعا رئيسيا.
ويشير المؤلفان في مقدمتهما التي شكلت مدخلاً مهماً وكاشفاً للأبحاث التي ضمها الكتاب لباحثين ونقاد متخصصين من مختلف الاتجاهات، إلى أن الاقتباس بدأ في بدايات القرن الماضي كنموذج من نماذج نقل الحداثة التي اعتمدها العالم العربي، فهو وسط بين الترجمة والتأليف الأصيل على منوال المؤلفات الغربية.
ويتابعان أن الاقتباس بوصفه ترجمة ثقافية يعد ظاهرة مركبة؛ من ناحية، يتضمن اقتباس مسرحية أو رواية فرنسية عملية ترجمة معقدة، حيث يتم نقل الأسماء والأطر الاجتماعية والتاريخية والجغرافية إلى البيئة المصرية. ومن ناحية أخرى تسلط عملية الاقتباس الثقافي/ الترجمة الضوء على القيم الجديدة أو المستوردة من الغرب، حيث تقوم الوسائط المرئية والمسموعة بوظيفة تتجاوز وظيفة الوسيط الذي ينقل منتجاً ثقافياً من خلال تحويله من مادة كتابية إلى مادة الصورة، لهذا فالقائمون بالاقتباس السينمائي عن الأدب الغربي مترجمون ثقافيون حقيقيون.
ويرى كل من مبارك والخشاب أنه «على حين تراجع الأدب الغربي كمصدر للأفلام المصرية منذ 1952، احتل الأدب العربي هذا الفراغ بمنطق أن اقتراب السينما من الواقعية يزداد مع تزايد اعتمادها على الأدب الوطني بديلا عن الأدب الأجنبي، وكذلك تزداد القيمة الفنية والثقافية لتلك الأعمال المقتبسة نظرا إلى واقعيتها، ومن ثم أصبحت الرواية المصرية هي المنافس الأول للرواية الغربية في سوق إنتاج السينما المأخوذ عن الأدب، ومع تثبيت الواقعية أقدامها كمعيار فني وسياسي وأخلاقي أعلى، تزايد اتجاه السينما إلى تقديم الأفلام في إطار الصيغة الفنية منذ الخمسينات فصاعدا»,
ويشيران إلى أنه «في السبعينات والثمانينات ظهرت أجيال جديدة من الأدباء والسينمائيين الثائرين على تقاليد الكتابة وقيود السوق والمنفتحين على التجريب، في هذه الأجواء بزغت الكتابة الجديدة بالتوازي مع ظهور سينما المؤلف التي أولت ظهرها للأدب، وسعت لتدعيم مفهوم السينما كفن مستقل»,
ويذكران أنه «كانت البداية مع هزيمة 1967 التي أصابت جيلا كاملا بصدمة انعكست على الأدب وتبدت في ترنح النموذج الواقعي. تخلى جيل جديد من الكتاب عن الخطاب السائد للواقعية؛ بهاء طاهر، جمال الغيطاني، صنع الله إبراهيم، إبراهيم أصلان، وكذلك الجيل الأكبر بما فيه نجيب محفوظ مع نشر مجموعته القصصية «تحت المظلة» 1967، سعى هؤلاء المؤلفون للتحرر من القوالب المهيمنة وللاستقلال عن النماذج السائدة في الكتابة والفكر، فولدت معهم حداثة جديدة ترفض مفهوم المحاكاة وتمثيل الواقع، في مقابل الإبحار في الخيال والغوص في الأنا وتطوير أشكال جديدة للكتابة».
ومن هنا تبنت الرواية أساليب جديدة في الكتابة مثل مصاحبة البطل المضاد وتعدد وجهات النظر واستخدام المونولوج الداخلي وتيار الوعي، واستخدام التقنيات السينمائية وتفكيك البنية السردية الخطية، وتحطيم مفهوم الحدث ومراوغة القارئ”.
ويرى الباحثان أنه بحلول عام 1980 لم تعد السينما بشكل عام خاضعة للأدب سواء كان مصرياً أو أجنبياً، ورافق هذه الظاهرة صعود خطاب حول السينما الواقعية بوصفها انخراطاً مباشراً في الواقع دون وساطة الأدب، خاصة أن السينما التجارية في السبعينات كانت قد استمرت في الاعتماد على الأدب بكثافة، فكانت إحدى الوسائل المتاحة للمخرج لكي ينأى بنفسه عن الاتجاهات الفنية السائدة ويصبح مخرجا مؤلفا هي رفض المصادر الأدبية.
ومن ناحية أخرى فإن الكتابة المتمردة التي يمكن أن تمر دون مشكلات رقابية كبيرة في الأدب، مثلت تحديات عديدة لأي مخرج يسعى لاقتباس أعمال الرواية الجديدة، وعلى الرغم من ذلك سعى بعض المخرجين الذين أغرتهم التجربة للجوء إلى هذا الأدب الجديد، مثل خيري بشارة الذي اقتبس رواية «الطوق والأسورة» ليحيي الطاهر عبدالله في عام 1986، بعد محاولة أولى عام 1973 حين رفضها المنتجون بسبب ما رأوه فيها من أجواء مظلمة وكئيبة، وكذلك فعل داوود عبدالسيد الذي اقتبس «مالك الحزين» 1991 لإبراهيم أصلان.
يضيف المؤلفان «استمرت علاقات الاتصال/ الانفصال بين السينما والأدب على مدار مختلف الحقب الزمنية في تحولاتها مع بداية الألفية الثالثة، وقد شهد القرن الحادي والعشرين جديداً في طبيعة العلاقة بين الفنين، ارتبط بتشكيل مشهد أدبي جديد حول أعمال «الأكثر مبيعاً»، فبدا وكأن حركة الاقتباس السينمائي غدت تسعى لاستثمار هذا الرواج الأدبي لخلق ظاهرة لازالت في طور التشكل، تظهر ما يشبه التنافس بين الأدب والسينما لاجتذاب متلق جديد، في تحول يؤسس لرؤى متكافئة بين الفنين تتجاوز تاريخاً طويلاً من التراتبية التي باعدت بينهما».
وتدور الأبحاث التي ضمها الكتاب حول ثلاثة محاور، أولاً اقتباس النوع بوصفه عملية انتقال لقيم الحداثة وإشكالياتها من خلال أعمال «زينب» و«البؤساء» و«الباب المفتوح» و«يوميات نائب في الأرياف». ثانياً الاقتباس باعتباره عملية انتقال ثقافي وما تستلزمه من مواءمات زمانية ومكانية في أعمال «أمير الانتقام»، و«نهر الحب»، و«جنة الشياطين» وفي اقتباسات «الملك لير». ثالثاً أعمال نجيب محفوظ بوصفها نموذجا استثنائيا لحركة ذهاب وإياب مكثفة بين الوسائط الفنية، ويتم استحضارها من خلال اقتباس «أفراح القبة»، و«أهل القمة»,
ويتضمن القسم الأول من الكتاب أربع دراسات تحلل ارتباط الاقتباس بقيم الحداثة والعبور بين الأنواع الفنية. تحلل سلمى مبارك عناصر نوع حكاية الريف وملامحه الفنية في فجر تاريخ كل من الأدب والسينما في مر، أما وليد الخشاب فيرسم ملامح تصوير الورشة والمصنع في السينما بتأثير الأدب الغربي، ويرصد مواكبة هذا التصوير لبدايات الحداثة. وتقدم هالة كمال استعراضاً لملامح المرأة وتحررها المصاحب للتحرر الوطني، من زاوية الدراسات النسوية السينمائية في كل من رواية “الباب المفتوح” للطيفة الزيات وفيلم بركات المقتبس عنها، ويخصص جان لوقا بارولين دراسته لنوع التحقيق البوليسي بين الأدب والسينما في كل من رواية «يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم وفيلم توفيق صالح، ويتأمل تصور مؤسسات القانون الحديثة بعيون مؤسسة السينما المعاصرة لتلك الحداثة.
ويركز القسم الثاني على جانب الانتقال العابر الثقافات في الاقتباس، حين يتضاعف تحول الدلالة بسبب الانتقال من الوسيط الطباعي للرواية إلى الوسيط السمعي البصري للفيلم، ويضاف إليه تحول ثقافي حين تنقل الرواية من سياق غربي إلى آخر عربي مصري، حيث تحلل راندة صبري الأبعاد السياسية والثقافية لتحول رواية ألكسندر دوما «الكونت دي مونت كريستو» إلى فيلم «أمير الانتقام» لبركات. ويقدم عصام زكريا مقارنة بين اقتباس شكسبير ورائعته «الملك لير» تحديداً في السينما الغربية وفي السينما المصرية حيث يغيب البعد السياسي تماماً عن شاشة السينما المصرية.
ويختتم الكتاب قسماً ثالثاً يدور حول اقتباس السينما والتلفزيون لروايات نجيب محفوظ حيث تقدم دينا جلال قرأة لاقتصاديات الإنتاج التلفزيوني ودوره في تنشيط صناعة الكتاب، من خلال تحليلها لاقتباس «أفراح القبة» في مسلسل تلفزيوني من منظور اقتصادي، أما أماني صالح فتقدم تحليلاً لمتصل الزمان والمكان وتبدل دلالالته السياسية والاجتماعية في نقد خطاب الانفتاح الاقتصادي عبر قراءة مدققة لقصة أهل القمة واقتباسها في فيلم علي بدرخان بالعنوان نفسه.