قراءة نقدية معاصرة لفيلم “الحرام”
للخطيئة ألف وجه.. هل أخطأت عزيزة حقا؟
“سينماتوغراف” ـ جايلان صلاح
“جدر البطاطا هو السبب”
من أول جملة تنطق بها بطلة فيلم الحرام، عزيزة والتي تؤدي دورها ببراعة سيدة الشاشة فاتن حمامة، نرى أمامنا نموذج المرأة المصرية المقهورة التي تلقي بأسباب تعاستها ومأساتها على أي شيء، سوى الرجل. فالرجل في حياة عزيزة متغيب، منذ أن أصيب زوجها بالبلهارسيا، وهو شبح لما كان عليه أن يكون، غائب جسدياً واجتماعياً ونفسياً، فلا استحق وضع القوامة الذي يقولبه عليه المجتمع المصري منذ نعومة أظفاره، ولا حتى ملأ الفراغ الذي أحدثه في جسد زوجته، فباكتفائه بالارتكان للحائط والاعتماد الكلي على عزيزة في إدارة شئون المنزل الاقتصادية والاجتماعية، استحق لقب الحاضر الغائب، وترك الفرصة لعزيزة لتصبح هي مصدر القوة في المنزل وربما خارجه.
لكن هذا لم يحدث.
فببساطة، عزيزة لم تكن مقهورة في منزلها، بقدر ما هي مقهورة لكونها امرأة فقيرة جميلة في عالم لا يعرف التعامل مع المرأة سوى بالحجر أو بالاغتصاب. وهذا هو ماحدث في فيلم “الحرام” لهنري بركات شيخ المخرجين، إنتاج عام 1965 والذي كتب السيناريو له المؤلف سعد الدين وهبة مأخوذاً عن رواية بنفس الاسم للكاتب الكبير يوسف إدريس.
في معظم القراءات لفيلم “الحرام”، يتحدث الجميع عن سقوط عزيزة، وعن خطأ عزيزة. حتى في القراءات النقدية للرواية، ومشهد الاغتصاب الملتبس الشهير، يتحدث الكل عن سقوط عزيزة كونها لم تقاوم مغتصبها ما يكفي، كونها لم تصرخ، كونها وقفت لوهلة تشاهده وهو يرفع الفأس ويهوي به على الأرض، ليحفر مستخرجاً ثمار البطاطا لها، وعما قد يكون دار بخلدها من حنين لهذا الجسد الشاب الفائر بالرجولة، في الرواية، الراوي يصف لنا مادار بخلد عزيزة في براعة، أما في الفيلم فكان عبء هذه اللحظة (ربما نقول اللمحة) على كتفي فاتن حمامة، تعبر بوجهها وهي تشاهد محمد ابن قمرين يهوي بفأسه على الأرض فكأنما تتخيله يهوي عليها بقوته ورجولته. هذه اللحظة رغم غناها درامياً إلا أنها لا تبرر وصف عزيزة بالخطيئة. والتباس مشهد الاغتصاب لا ينفي كونها لم تكن راضية عن ممارسة الجنس مع الرجل الذي استغل ضعفها ورعبها واحتياجها ليعتدى عليها بين الحقول.
قسوة الأرض على عزيزة، أشبه بقسوة الراوي العليم والذي أراه أضعف ما في الفيلم، لأنه يصبغ عليه نكهة وعظية غير محببة للنفس. فنرى مقدمة الفيلم بصوت الراوي –حسين رياض- “الحرام: قصة خاطئة مصرية”. حكم الراوي كما حكم الكثير ممن شاهدوا الفيلم لا ينفي أن الجريمة الكبرى ليست في قتل عزيزة لابنها الوليد، ابن الزنا بمنظورها، ولا في جريمتها التي يصفها البعض بالسقوط الأخلاقي، ويصفها الآخرون بالاغتصاب، إنما في عزيزة نفسها. تجريم عزيزة لنفسها، مناجاتها مع الرب عند اكتشافها حملها من سقطتها في الحقل، وقولها، “أنا غلطانة، لكن أعمل إيه الشيطان كتفني؟” أكبر دليل على أن الحرام ليس في الجنس ولا في القتل بقدر ما هو في تجريم الانسان لنفسه وشعوره بالذنب من أخطاء لم يرتكبها.
شعور عزيزة بالدنس، بدأ بمشيتها المنكسرة منذ الحادث، مروراً بطرحتها التي أصبحت متهدلة على جبينها، وشعرها الطويل الذي اختفى وراء الحجب، واختفاء أنوثتهاا القروية التي تمزج بين السذاجة والشقاوة، والبهجة التي ماتت من على وجهها، حتى وصلت لخوفها من افتضاح أمر ولادتها، وقتلها لابنها عن غير وعي، وكأنها بهذا تختم رحلتها المذنبة المعذبة بجريمة لم تصح منها ولم تشف.
الحرام فيلم مميز بكل المقاييس، ليس لقصته ولا لمعالجته لفكرة الخطيئة، خاصة وإنه مع انتصار مخرجه “هنري بركات” للمرأة بصفة عامة في أفلامه، إلا أنه يقسو عليها بتمثيله لقسوتها على نفسها، وإلصاقها شبهة الخطيئة بها في جميع الأحوال. قوة “الحرام” تكمن في التباس الخطيئة، فلا يستطيع أحد أن يجزم إذا ما كانت عزيزة قد قتلت ابنها محملة بالإثم أم بالرعب، ولا يستطيع أحد أن يشاهد اغتصابها على يد محمد ابن قمرين بنفس مرتاحة لرد فعلها أو لمغزى كتمانها ما تعرضت له من حادث أليم.
إذا حذفنا الرواي في بداية ونهاية الفيلم، ربما أصبح لدينا فيلماً تجريدياً رائعاً، يكاد يبدع في تمثيله لفكرة الخطيئة وقهر المرأة جنسياً واجتماعياً. مع هذا، يظل الحرام فيلماً اجتماعياً نسوياً، يأخذ من جسد المرأة عصب في ضرس المجتمع الملوث، ويضغط، ويضغط حتى ينفجر الألم في أرواحنا جميعاً.