يحمل بصمة المخرجة رخشان بني اعتماد
“قصص” .. حكايات مؤلمة وسينما متشائمة عن واقع إيراني مأساوي
أبوظبي ـ “سينماتوغراف”
فيلم “قصص” للإيرانية رخشان بني اعتماد، والذي ينافس ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة لمهرجان أبوظبي السينمائي في دورته الثامنه، تتشكل حكاياته عن المهمّشين والمنبوذين من تفاصيل الحياة الإيرانية العادية لتتجمع داخل إطار فني يصنع عملا تم نسجه بمهاره من حيث الكتابة والأداء وتناسق علاقات الشخصيات التي تدور في دوائر مغلقة، والمشبعة بالألم والقلق والغضب.
ومن خلال مزج واضح بين الأسلوب الوثائقي والدرامي تغزل المخرجة الإيرانية حكايات ترصد يوم في حياة سبع شخصيات تعيش ظروفاً عادية ولكنها صعبة، وبإسقاط واضح على شكل الحياة داخل المجتمع الإيراني حاليا، وتمثل قصص هذه الشخصيات مجموعة مشاهد غير مكتملة كالواقع الذي نعيشه يوميا.
وأنماط تلك الشخصيات المختلفة تم انتقائها بذكاء شديد، فهناك الفتاة التي تبيع نفسها رغما عنها لتستعيد آداميتها في الحياة وتوفر علاجا لابنها المريض، وامرأة أخرى تلجأ للمصحة والتأهيل النفسي لتهرب من جحيم زوجها بعد أن شوه وجهها، وامرأة متقاعدة تبحث عن حقها، وموظف يبحث عن أدنى مايريده كبشر من التأمين الصحي أمام بيروقراطية موظف حكومي، ورجل يرصد بكاميراته ما يحدث في هذا المجتمع، وكلها شخصيات تعيش واقع مأساوي ولكنه طبيعي، وتحمل نوعا من الإحباط ورغم ذلك لا تزال قادرة على المقاومة.
وتميل المخرجة في رصدها إلى أفراد الطبقة الوسطي والفقيرة، والتي أصبحت مهمشة في إيران، وتنجح في تقديم عمل يمكن القول عنه شديد الانتقاد والسوداوية وتتجاوز حدود المسموح في السينما الإيرانية وتقفز فوق الخطوط الحمراء الذي اعتدنا عليها، وتقدم تجربة استثنائية كما يري صناع الفن السابع.
والقسوة الواقعية في الفيلم لا تُلغي جماليات المعالجة السينمائية في “قصص”، كما أن الجماليات نفسها لا تُخفّف من وطأة المواجع التي تُصيب الناس، فتلك الجماليات السينمائية هي مفتاح الدخول إلي تلك العوالم الإنسانية وماتعانيه، والتي باجتماعها في سياق واحد تتحوّل إلى تكوين سينمائي خصب ورائع.
ويستعرض الفيلم صور هؤلاء الإيرانيين الذين لا يجدون سوى المال القليل الذي يساعدهم على البقاء على قيد الحياة، بينما تسهم البطالة وإدمان المخدرات وتسلط النظام في ازدياد محنتهم، وقوة النص (سيناريو رخشان بني اعتماد وفريد مصطفافي) ممزوجة بعمق الحوارات النابعة من أعماق الاحتراق الفردي، وسط دمار الجماعة. أما التصوير (كوهيار كالاري)، فنجح في نقل التداخل الدرامي للأحداث. وكانت الكاميرا ذكية جدا في تجوالها داخل الأمكنة كتجوالها في النفوس، وتفضح بعض المخفيّ في الأمكنة كفضحها بعض المبطّن في أحوال الناس ومآزقهم.
واذا كانت حوارات الفيلم مشغولة بحرفية واقعية، وسلاسة تتضمّن حدّاً كبيراً من العمق الإنساني الباحث في أسئلة الحياة والوجود والمرض والقلق والتحوّلات الحاصلة في إيران، فإن الحوار في نهاية الفيلم بين سائق مركز علاج الإدمان وإحدى العاملات فيه يمتلك قدراً كبيراً من الشفافية والعفوية والتعمّق المرير بالحال الفردية وشجونها وانقلاباتها وخيباتها. حوار يشي بحبّ معلّق، لكنه ينفتح على معاني التضحية بالذات والغرق في المرض والسعي إلى التعويض عن الخيبة بالعمل مع آخرين. ينفتح على أسئلة تُذكّر بمغزى التضحية بالذات من أجل الآخر، فلا ادّعاء ولا تصنّع ولا فبركة، بل واقعية عميقة وقاسية ومُشبعة بحساسيات مفتوحة على هذا الخراب الكبير، الذي يغرق فيه العالم، وهو هنا تلك البقعة الجغرافية التي يتشكّل منها الفيلم، الغارقة في صداماتها الداخلية، وتناقضات أهلها وخيباتهم.
وفي “قصص” لا قصة إطلاقاً، بل مجموعة مشاهد عن المتقاعدين والمحرومين والعاطلين الذين يجدون صعوبة في إيجاد من يستمع إليهم، إلى الهاربين نحو الإدمان، ويمعن شريط الفيلم، في روي حكاياتهم بأسلوب شيق بحيث إننا لا ننتبه سوى للموضوع. إنها السينما المستقيمة ولكن الحزينة وربما المتشائمة أيضا.