كان ـ «سينماتوغراف»: مها عبد العظيم
تنشغل عدد من أفلام المسابقة الرسمية لمهرجان كان 2018 بقضايا الحب، بعواصفه وعذاباته. لذة سينمائية بحتة تقويها الخلفية السياسية، ميزت فيلمي “الإغراء والحب والعدو السريع” للفرنسي كريستوف هونوري و”الحرب الباردة” للبولندي بافيل بافليكوفسكي.
دخل كريستوف هونوري السباق نحو السعفة الذهبية في النسخة 71 لمهرجان كان بـ”الإغراء والحب والعدو السريع”، أحسن فيلم أنجزه حتى الآن حسب العديد. وكان أمام هونوري عائق من الوزن الثقيل، فمواطنه روبان كامبيو كان قد شارك في النسخة السابقة للمهرجان بفيلم “120 خفقة في الدقيقة” الذي تناول مواضيع مماثلة وفاز بالجائزة الكبرى (ثاني أهم جوائز كان).
تطرق فيلم كامبيو لبدايات نضال أعضاء جمعية “أكت أب” لمكافحة الإيدز (مرض نقص المناعة المكتسبة) التي أسست عام 1989 في فرنسا، والمنبثقة عن ائتلاف المثليين. فصور المخرج من الداخل اجتماعات الحركة والتظاهرات التي تنظمها والمصاعب التي تواجهها. وفي حين بحث كامبيو مسائل الحب والموت من زاوية نضالية، كانت نظرة هونوري للمثلية من منطلق حميمي وحساس يبسط خفايا الرغبة في الإغراء والخوف من نبض القلب وقوة الجنس وتذبذب الشهوة وهشاشة الجسد.
يرفع هونوري التحدي بأناقة عبر قصة حب بين الكاتب الأربعيني جاك (بيار دولادونشان) المصاب بالإيدز، وهو أيضا أب الطفل “لولو”، وبين الطالب الشاب أرتور (فانسان لاكوست). تدور في باريس في تسعينيات القرن الماضي حيث كان شبح الإيدز يخيم على العلاقات بين الرجال. الإخراج تميز بالذكاء والرقة وبكثافة مراجعه الأدبية والسينمائية والموسيقية.
تجمع قصة جاك وأرتور تجربة رجل يواجه حتفه القريب وشاب في بداية اكتشافه اندفاعة الشبق والجنس. جاك يقع في حب أرتور لكنه يخاف أن يغامر به ومعه، وفي كبحه لمشاعره صمت ضبابي. من جهته يبدو أرتور لعوباً ومفعماً بالحياة، لكن تنقصه التجربة فيتردد في إرساء خطواته نحو العشيق. فكيف يستسلم جاك للجنون الأخير وقد أكل الدهر على جسده وروحه وشرب، أمام الأجل المحتوم، وشركاء حياته السابقون منهم من رحل ومنهم من صار صديقا.. كيف ينساق إلى حب أخير وغير متوقع أشبه بالنزوة من الحظ؟
في هذه المرثية العاطفية الخاطفة لا يجيب هونوري عن هذه الأسئلة لكن يعمقها ويسرق لحظات التردد ومشاهد اليأس ويباغت التوازن الهش بين رقة الجنس وفظاظته. تدور حول الثنائي كوكبة من الشخصيات الثنائية وكأنها لتسطر وتأطر علاقتهما، بين حب غابر (على غرار ماتيو الذي كان شريك جاك الأول وأصبح أقرب صديق له) وحب عابر.. يحاول جاك الذي بثت فيه غرامياته نفساً جديداً، الصمود في وجه المعادلة القاتلة بين الشهوة والموت الذي يرافقه كظل عنيد. فيبدو الاستسلام في النهاية كأكبر برهان عن الحب.
إضافة إلى المراجع السينمائية، إذ نرى ملصقاً لفيلم “درس البيانو” للأسترالية جاين كامبيون الحاصل على سعفة ذهبية عام 1993، ومشاهد لمقبرة باريسية يزور فيها أرتور قبر المخرج الفرنسي الشهير فرانسوا تروفو، يزخر “الإغراء والحب والعدو السريع بالإشارات الأدبية التي تحيل على “الجيل المهزوم” في أمريكا الستينات وفي طليعته الشاعر آلن جينسبيرغ.
من جهة أخرى، للأدب الفرنسي حضور محوري مع قراءات لجان ماري كولتاس وكتب هيرفي غيبار الذي توفي بسبب الإيدز ومن مؤلفاته “إلى الصديق الذي لم ينقذ حياتي” (1990)، يقول فيه “إن لم تكن الحياة سوى نذير الموت، فتعذبنا باستمرار بسبب جهلنا لأجلنا، فالإيدز بتحديده لذلك الأجل يرفع عنا الجهل ويجعلنا بشراً واعين بقوة بالحياة”. دون ذكرها مباشرة، يحمل الفيلم كل مراجع هذا الموروث، في تسجيل خيالي للتاريخ، ويصنع منا أناساً واعين بقوة الحياة.
أما البولندي بافيلبا فليكوفسكي فقدم ضمن المسابقة الرسمية “الحرب الباردة”، وكان المخرج قد فاز بأوسكار عام 2014 عن فيلم “إيدا”. يعود بافليكوفسكي ليصور بالأبيض والأسود . معلما بارع في تركيب شكل كلاسيكي يعد درساً في السينما.
بعد الأزرق الذي طغى على فيلم هونوري، يحل هنا “رمادي” من خمسينيات القرن العشرين، ولون الأحزان العاطفية، فالقصة أيضاً تتناول حباً مستحيلاً. يتنقل بافليكوفسكي في التصوير من بولندا الستالينية إلى باريس “العيش الجميل”، مروراً ببرلين ويوغسلافيا. تعيش زولا (جوانا كوليغ) في بولندا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وسط عائلة من الطبقة المتوسطة، وتنضم إلى مجموعة غنائية فولكلورية للرقص والموسيقى يديرها فيكتور (توماس كوت) وهو موسيقي من الطبقة المثقفة يضطر لامتهان الفن الشعبي خلال الفترة الشيوعية.
تقع زولا في حب فيكتور لكن توق الأخير للحرية يدفعه للسفر إلى الغرب فهو يحلم بأن يصبح موسيقي جاز. قصة العشق بينهما لا يفسدها فارق العمر بل سخرية القدر والزمن، باختلاف الانتماء الاجتماعي وببطش فترة سياسية تقيد نزعات التحرر. لكن يبدو العشيقان في نفس الوقت محكومين برابط عبثي يجعلهما لا يقدران على الافتراق على الرغم من (أو بالأحرى بسبب) حبهما العاصف.
ويقول بافليكوفسكي الذي يشارك لأول مرة في السباق نحو السعفة الذهبية، أنه استوحى “الحرب الباردة” من حياته الشخصية وقصة والديه “شخصان كل منهما أقوى من الآخر، يكرهان بعضهما، يخونان بعضهما، يتطلقان، يتركان بلادهما ثم يلتقيان من جديد ليعشان سويا في الخارج”. ويتابع أنه لم يجد من حوله شخصيات بهذه الدرجة من “الطاقة الدرامية، فهما يريدان أن يعيشا معاً لكن لا يقدران على ذلك”. وأشار إلى أنه قام بتغيير بعض التفاصيل لتماسك الحبكة السردية.
خلفيات فيلم هونوري وفيلم بافليكوفسكي السياسية والاجتماعية مهمة، لكنها مكتوبة بدقة حميمية توقظ أصغر هزائمنا وأكبر حرائقنا. هل تكون السعفة هذا العام سعفة حب؟ فما السينما دونه..