فلورانس كافيه
ترجمة: صلاح سرميني
مع أكثر من 800 فيلم يُصور في العام، تُعتبر الهند أول بلدٍ مُنتجٍ للسينما في العالم، ومع ذلك، يعتقد معظم الغربيّون بأنّ الأفلام التي يُقال عنها “هندية” ـ بسبب اللغة المُستخدمة في حواراتها ـ كاريكاتورية، ذات ذوقٍ رديء، وغير قابلة للتصدير.
من يرغب بمُشاهدة هذه الأفلام الخارجة عن المألوف، بأحداثها التي لا تنتهِ أبداً، وعُقدها الساذجة، والغبية، ووصلاتها الموسيقية المُنبثقة من الفراغ؟ مَنْ؟
في الحقيقة، جزءٌ كبيرٌ من البشر.
تصوروا!..
إذاً، دعونا ندخل في هذا العالم الملون، والابتسامة الصفراء على الشفاه،….
وأهلاً، وسهلاً بكم في بوليوود.
تطوّر الأذواق، والألوان
ظهرت السينما الهندية في نهاية القرن التاسع عشر مع نفس بداياتها في الغرب، وصُور الفيلم الروائيّ الأول في عام 1913، وكان ملحمةً ميثولوجيةً اعتمدت على جزءٍ من أحداث “الماهاباهارتا”، وتطورت السينما تدريجياً حتى عام 1950، حيث بدأت تظهر في مدينة السينما في استوديوهات بومباي نوعيةً جديدةً من الأفلام.
بين التيمة التقليدية، الرقص، والموسيقى، نوع الستينيّات الذي ظهر ما بين 1960-1970أثر بشكلٍ ملموسٍ في السينمائيّين الهنود لتلك الفترة: من أفلامٍ هادئة، ومستوحاة مع ألحانٍ رقيقة، إلى أفلام الحركة على خلفية موسيقى راقصة ـ قريبة من الديسكو الغربية ـ وأضيفت الطبول التقليدية (الطبلة، السيتار، والطنبورة،..) إلى الفرق الأوركسترالية السيمفونية مع آلات الكمان المُرتخية الفاترة، القيثارات الكهربائية، والبانغو (آلةٌ موسيقيةٌ وترية تشبه القيثارة)، أو الأوكورديون.
وهكذا وُلدت الأفلام المُسماة (ماسالا) ـ وأخذت اسمها من مزيج البهارات المُستخدمة في المأكولات الهندية ـ
خلال خمسين عاماً، تغيّرت أذواق الجمهور الهنديّ، وتطورت بشكلٍ ملحوظ، ولكن بشكل أقلّ فيما يتعلق بالعقدة التي احتفظت بنفس الأسلوب بالمقارنةً مع الممثلين.
أظهرت “أفلام البهارات” في بداياتها شخصياتٍ تستجيب أشكالها الجسديّة لبعض المواصفات المعهودة، كانت عناصر الجمال في تلك الفترة محدّدة بوضوح: على الرجال بن يكونوا رجالاً حقيقيّين، مع نقوشٍ على أجسادهم، وشعراً يغطي صدورهم، البطل الثلاثينيّ الكامل الأوصاف، قبضاتٌ قوية، وشاربٌ مُعتنى به جيداً.
مع الوقت، وبتأثير العولمة، نحفَ هذا البطل، وخفّت حدّة سمرته، وأزالَ شعر صدره، وهكذا، يزدهر اليوم على الشاشة الهندية نجومٌ أكثر قبولاً على المستوى العالمي، يعجبون الشابات الهنديات، كما النرويجيات، والإيطاليات على حدٍّ سواء، نحفاء، ممتلئ العضلات، وخفيفي الحركة – من أجل مُتطلبات مشاهد الرقص – (شاروخ خان، هريتيك روشان، أو أمير خان).
بالنسبة للممثلات، لم تتغير مواصفاتهنّ كثيراً على مرّ السنوات، هنّ بريئاتٍ، بديناتٍ قليلاً، جميلات جداً، وبشكلٍ عام، تتأرجح نظراتهنّ بين الصفاء، والتصنّع من جهة (مثل صورة سيئة الذوق)، وبين اللعب، والغنج من جهة أخرى، ومن بين الأكثر شهرةً منهنّ: كاجول، أشواريّا رايّ (ملكة جمال الهند لعام 1994)، كاريسما كابور،…
كما تمتلك شخصيات الأفلام الهندية أصواتاً خارج المألوف عندما ينطلقون بالغناء فجأةً، وفي الحقيقة، هي ليست الأصوات الحقيقية للممثلين، ولكن، لا يهم لمن تكون، ما هو مهمٌّ بالنسبة للجمهور، الجاذبية، والاختيار المناسب للمخرج الذي انتخب هذا الصوت لهذا الوجه، ومع أذانٍ غير مدرّبة، يمتلكنا الإحساس بأنهم نفس البدلاء، وليس ذلك بعيداً عن الواقع، “أشا بوسل” – على سبيل المثال- مع صوتها الحادّ، والأخنّ، لعبت البديل لأكثر من ألف دور، ونفس الحال بالنسبة للجذاب “أوديت نارايان”، والذي كان يغني دائماً بدل “أمير خان” .
مزيجٌ لذيذ
ما يمنح الشعبية، والنجاح للفيلم الهنديّ، تكوينه، والمقادير المضبوطة لكلّ واحدةٍ من مكوناته، بالتأكيد، تمتلك العقدة أهميتها، ولكنها لا تصنع كلّ شئٍ لوحدها، ولو نقصت بعض المقادير التي لا غنى عنها، يمكن أن تؤدي إلى فشل الفيلم جماهيرياً.
أولاً، وقبل كلّ شئ، يجب الاعتماد على قصة حبّ (معقدة بمشاكل اجتماعية، مثل الفوارق الطبقية، أو الدينية) مُزينة بالقليل من الشهوانية المُبطّنة بين فتاةٍ جميلة، وبطلّ جذاب لا يفهمه أحدّ، إن كان ذلك ممكناً.
وأكثر من هذا، يلزم بعض التشويش السياسيّ، أو البوليسي مطعماً بالتشويق، ومعارك ضارية، ومشاهد غنائية، حتى ولو لم تكن لها أيّ أهمية درامية، يجب أن تكون حاضرة (ست أغنياتٍ على الأقلّ للفيلم الواحد).
وهكذا، نرى الأشرار يفتلون أحواضهم، ويحركون رؤوسهم برفق، أو رجال الشرطة يكشفون عن قدرة عظيمة على الرقص في المخافر.
ولنقل، لا مانع بإضافة القليل من المشاهد المريحة، حيث تُوضع أعصاب المتفرجين في حالة اختبارٍ قاسية، ومن ثم لا داعي للتذكير بالضرورة المطلقة بأن ينتهي الفيلم نهايةً سعيدة، فالمتفرج لا يأتي إلى السينما ليقضي فيها ثلاث ساعاتٍ، ويخرج منها باكياً.
تمتلك السينما في الهند قبل كلّ شئٍ وظيفةً مُسلية بالمعنى “الباسكالي” للكلمة، يجب قضاء الوقت، وتغيّير الحالة النفسية خلال بعض الساعات، ونسيان حقائق الحياة اليومية، والله وحده يعرف فيما إذا كانت هذه الحقائق مؤلمة في الهند.
الأجواء في الصالات
يمكن القول، بأنّ الأفلام الهندية تمتلك هدفاً أوليّاً، بأن تجعل المتفرجين سعداء، راضين على الأقلّ، وعليها أن تشبع الجمهور في مستوياتٍ عديدة:
أولاً، تردّ على الهموم اليومية الأساسية للناس، وتقدم مشاكل تخصّهم، بالخلاف مع ما يحدث غالباً عندما تدور القصص في أوساط الطبقات المُرتاحة للمجتمع الهنديّ: بيوتٌ حديثةٌ جداً، وفتياتٌ مثيرات، أبعد بكثيرٍ عن تجسيد حياة الغالبية من السكان.
ومن ثمّ، يجب أن تتوفر كلّ المُشهيات التي تحدثنا عنها في السطور السابقة: رومانسية، حركة، تشويق، رقص،.. ما يجعل المدة الزمنية لهذه الأفلام لا تقلّ عن ثلاث ساعات، ويجب القول، بأنه كلما كان الفيلم طويلاً، كلما كان ذلك مُستحبّاً، بحيث يمتلك المتفرج الإحساس بأنه شاهد على قدر ما دفع ثمناً لتذكرة الدخول.
على المستوى الاجتماعيّ، تتضح أهمية السينما في الدور الهام الذي يلعبه الممثلون – بالإضافة لتجسيدهم للشخصيات التي يُقدمونها – كنماذج مثالية، بحيث يُعتبر البعض منهم أنصاف آلهة، ويحصل آخرون على أهميةٍ – بسيطة، أو كبيرة- في المشهد السياسيّ للبلاد .
وكما أنّ معظم الأفلام الهندية تنشر رسالةً أخلاقيةً، فإن الأبطال يمثلون غالباً أصوات العقل، والمنطق، وفي داخل صالات السينما يمكن أن نستوعب حالة “التأمل” هذه، و”التقمص” الذي يعيشه المتفرجون مع الأبطال.
في الحقيقة، للهنود طريقةً خاصّة جداً بمشاهدة فيلم ما على الشاشة الكبيرة، الشيء الأول الذي يلاحظه الزائر، ليس الشاشة فحسب، حيث تبدو فيها الألوان وكأنها خارجة من حلم، ولكن، السحب الكثيفة من الدخان التي تُضبّب المكان.
هنا، صالة السينما مكانٌ معيشيّ، مثل أماكن أخرى، كالقهوة في الشارع، حيث يدخن المتفرجون، ويأكلون بطريقةٍ صاخبة رقائق البطاطس المقلية المُشتراة من الكافتيريا، ويشربون الشاي الحارق، ويشفطون، ويتناقشون، وكلّ واحدٍ منهم يقدم تعليقاته:
ـ أنظر إلى أصحاب العضلات المُنتفخة،…
ـ عليه اللعنة، لقد فهم الشرير كلّ شيء.
ويشجّعون الطيب عندما يتعارك بشجاعةٍ مع مجموعة من الأشرار (ويخرج منتصراً بالطبع)، ويزعقون ضدّ زعيم العصابة عندما تتوقف لقطة كبيرة جداً عند عينيّه الصفراويّن، خلاصة القول، يشارك الجمهور بفاعلية، ويدعون أنفسهم لسذاجة التصديق، مع درايتهم الضمنية بأنّ ما يشاهدونه ليس أكثر من سينما.
والحساب؟
بعض الأرقام عن السينما في بوليوود:
يوجد تقريباً 15.000 صالة في عموم الهند، يرتادها الجمهور بعناد، 150 مليون هنديّ يذهبون كلّ أسبوع، وتُباع أكثر من مليارين، ونصف من البطاقات كلّ عام.
اليوم، تُمثل الأفلام الهندية 30% من الإنتاج الوطني، و85 % من الصادرات: سكان آسيا الجنوبية، والجنوب الغربي، والشرق الأوسط، وجزءٌ من أفريقيا يعشقون بدورهم هذا النوع من السينما.
وتمتلك تجارة المنتجات المُصاحبة، أو المُشاركة نصيبها في النجاح المادي لصناعةٍ كهذه: الفيديو، الـ DVD، والشرائط الصوتية هي المصادر الرئيسية، وقد تعود الهنود على شراء أشرطة الموسيقى الأصلية بدون أن يشاهدوا الأفلام نفسها.
وموسيقى الأفلام الهندية جزءٌ من الـموسيقى الشعبية للبلاد، وتعتمد بعض الألحان الجيدة على نفسها وحدها بدون الفيلم، ويحقق عدد من المؤلفين المشهورين مثل “سمير”، و”جاتين لاليت” أرباحاً طائلة.
في عام 2002 عُرض “لاغان” في صالات الفنّ، والتجربة في فرنسا، وبلدانٍ أوروبية أخرى، وقد حصل سابقاً على جائزة الجمهور من “مهرجان لوكارنو”، ورُشح لأوسكار أحسن فيلمٍ أجنبيّ.
تدور أحداثه في سنوات الاحتلال البريطاني للهند، وبطول ثلاث ساعات، و40 دقيقة،..
لمَ هذا الفيلم بالذات، وليس غيره ؟، لماذا الاهتمام بالإنتاج البوليووديّ الآن فقط؟
من الصعب الردّ على هذه الأسئلة.
هامش :
نُشر هذا التحقيق عام 2002 في موقع (http://www.routard.com)، تحت عنوان (كان يا ما كان بوليوود)، وهو يُعبّر عن وجهة نظر الصحفية الفرنسية “فلورانس كافيه” المهتمة بالسياحة، والسفر، وقد استعارت العنوان من اسم كتاب المصور الفوتوغرافي “جوناتان تورغوفنيك”، والذي يضع القارئ في قلب هذه الثقافة السينمائية المُتفردة، ويرصد شعباً مولهاً بسينماه، وفي أربع فصول، ومئات من الصور، يكشف عن كواليس الصناعة البوليوودية، ويسجل تأثيرها على المجتمع الهندي، وقد قام بكتابة المقدمة (“نسرين كبير” المُتخصصة بالسينما الهندية، ويُعتبر هذا الكتاب مدخلاً جيداً لعالم بوليوود (المترجم).