كان ـ «سينماتوغراف»: عبد الستار ناجي
يعتبر المخرج الكندي ديفيد كرونينبيرغ واحد من أهم صناع السينما الكندية وأكثرهم غزاره وتفرداً في الاشتغال على سينما المؤلف والسينما من أجل السينما ضمن مواصفات انتاجية عامرة بالبحث المستقبلي والتجديد، لذا فإن نسبة كبيرة من الجمهور ولربما النقاد يخروجون من أفلام كرونينبيرغ كما دخلوا لأنها ذات بعد فلسفي تعمد التعامل مع السينما بمنظر يتجاوز المؤلف، حيث لا قصة تقليدية ولا إخراج تقليدي مستعاد.
يتحدث الفيلم عن مرحلة من تاريخ البشرية حيث يقوم أحد الفنانيين (سول) فيجو مارتينز بالإشتراك مع صديقته (كابريس) ليا سيدو، في تقديم عروض تعتمد على سبر الجسد ومعرفة أسراره عبر عمليات معقدة، وفي خط متوازي نتابع عملية التحقيق من أجل الوصول إلى مجموعة تسير على نفس النهج، ولكن بمنظر مختلف وتتداخل الأحداث والعلاقات، والمحور هو الجسد والأسلوب هو تمزيق كل شيء.
تبدأ الأحداث بعد تطور حالة طفل راح يأكل كل شي حوله من حجارة وبلاستيك، وهو ما يمثل نقله في الجينات تضطر معه والدته إلى قتله، مما شكل علامة استفهام من قبل الباحثين الذين يرون في عملية القتل نوع من الردة أمام التطور الكبير الذى شهدته عمليات السيطرة على الجسد ومشاكله، وأيضاً أسراره بالذات على صعيد الرغبة، سينما هذا المبدع الكندي سنما مستقبلية تحتاج إلى الكثير من التأمل وكثير من البحث والدراسة العميقة.
في عام 1985 قدم كرونينبيرغ فيلماً بعنوان «فيديو روم» كان سابقاً لعصره وزمانه، احتاجت البشرية سنوات طويلة للتعرف لاحقاً على الفيديو وصناعته وتطوره، وهكذا هو في النسبة الأكبر من أعماله السينمائية، ومنها أفلام (خارطة النجوم ، المعادلة الخطرة، و تاريخ العنف)… وغيرها من خلال عناوين أعماله نتعرف مقدرته على الذهاب إلى مناطق فكرية وفلسفية عالية وبعيدة، تتطلب عندها الذهاب إلى مشاهدة أفلام وقراءه الكثير من المراجع والبحوث لفك رموز وشفرات حواراته وقضاياه وأسلوبه … الكتابة عن كرونينبيرغ تتطلب الكثير .. وعند الاختصار نقول بأننا أمام مبدع مستقبلي أضاف الكثير لفن السينما، وأيضاً السينما كفن إبداعي متطور.
المخرج الكبير، رغم دخوله العقد التاسع من العمر، لا يزال طليعياً في أفكاره عن الإنسان، ومبتكراً في نظرته للمستقبل. قد تحرك سينماه فينا مشاعر متضاربة أو نبقى لامبالين تجاهها، لكن من الصعب التجاهل أننا أمام رجل يعرف دروسه السينمائية وقد حفظها عن ظهر قلب. إتقانه لكل مراحل صناعة العمل لم يعد موضوع شك منذ زمن بعيد. من التأطير إلى التقطيع فالحفاظ على مستوى الإيقاع وإشاعة جو القلق… كل شيء مشغول بحرفة وصنعة معلّم. لا يوجد خلل واحد أو زلة أو شيء ليس في محله الصحيح. يبقى أن ننتظر لنرى إذا كانت لجنة التحكيم سترى في كرونينبيرغ أهلاً لـ«السعفة»، هو الذي لم ينلها يوماً رغم مشاركاته المتعددة في المهرجان.