كان ـ «سينماتوغراف»: مها عبد العظيم
دخلت اللبنانية نادين لبكي المسابقة الرسمية للنسخة الـ 71 لمهرجان كان بفيلم “كفر ناحوم”. القيمة الوثائقية للفيلم هامة، فهو يسبر أغوار مختلف الشرائح المهمشة في المجتمع اللبناني، وفي مقدمتها الأطفال، عبر قصة الطفل “زين”. وإن كان الفيلم قد لاقى استقبالاً جماهرياً حاراً فيبقى ذا صبغة شعبوية، إذ يفتقد إلى بعض خطوط القوة السينمائية.
أخرجت الممثلة والسينمائية اللبنانية نادين لبكي في بداياتها، وبعد أن حصلت على شهادة في علوم السمعي والبصري من جامعة بيروت، إعلانات و”كليبات” موسيقية ونالت جوائز عن بعضها، شاركت نادين لبكي عام 2004 في “إقامة سينيفونداسيون” لمهرجان كان لكتابة سيناريو فيلمها الطويل الأول “سكر بنات” ثم صورته بعد عامين. وفي 2007 عرض “سكر بنات” في قسم “أسبوعا المخرجين” في مهرجان كان وبيع عبر العالم وحقق أكبر نجاح دولي عرفته السينما اللبنانية. وفي 2011 شاركت في قسم “نظرة ما” بفيلم “هلأ لوين”، وهي لوحة مجازية وشجاعة تقبل الآخر، وكانت لبكي عضوة في لجنة تحكيم في قسم “نظرة خاصة” عام 2015.
نادين لبكي، ابنة كان المدللة، جاءت هذا العام بفيلمها “كفر ناحوم” لتقدمه في أرقى أقسام المهرجان. وهي رابع مخرجة لبنانية (وثاني امرأة) تشارك ضمن المسابقة الرسمية بعد كل من جورج نصر بفيلمه “إلى أين” عام 1957، وهيني سرور بفيلم “ساعة التحرير دقت” (وكانت أول امرأة عربية تشارك في المسابقة الرسمية) سنة 1974 ثم مارون بغدادي والذى فاز فيلمه “خارج الحياة” بجائزة لجنة التحكيم عام 1991.
تتناول لبكي، وبطريقة مختلفة تماماً، مسألة المهمشين في بلادها. ينطلق “كفر ناحوم” داخل محكمة. يقف زين طفل الـ12 عاماً أمام القاضي الذي يسأله “لماذا تريد رفع دعوى ضد والديك” يجيب زين “لأنهما أنجباني”. هكذا تبدأ رحلة “الخراب والجحيم” التي يشير إليها عنوان الفيلم.
كان زين يعيش وسط عائلته الفقيرة، في مستوى لا يمكن أن يتصوره بشر، ينام على “أقل من نصف متر مربع” مع أخواته الكثيرين وأقربهم إليه الطفلة سحر. تنتقص العائلة إلى أبسط الحاجيات، للأكل والشراب، وأطفالها لا هوية لهم فهم ليسوا مسجلين. وعوض الذهاب للمدرسة، يساعد زين جارهم أسعد في محل تجاري صغير بحيهم مقابل هذا المسكن حيث يعبث الدجاج في المدرج وتفيض أنابيب المياه. في نوع من الابتزاز، ينتظر أسعد في المقابل أن تزوجه العائلة ابنتها الصغيرة سحر (11 عاماً).
يجن جنون زين فيهرب ويتشرد قبل أن يلتقي الإثيوبية تيغست التي تأويه، فيعتني زين برضيعها يوناس في الوقت الذي تسعى فيه الأم إلى محاولة الحصول على أوراق إقامة وتتعرض لكل أشكال السلب والاستغلال. بعد رحلة تشرد مع يوناس، نكتشف من خلالها أعماق بيروت التي تجهلها السينما العربية، يعود زين ليثأر لسحر. من السجن يوجه الطفل نداء عبر التلفزيون فتهرع محامية (تتقمصها نادين لبكي) للدفاع عنه.
أغلب الممثلين في الفيلم غير محترفين، وكان ذلك من أقوى خطوط التصوير بعفوية وتأثير تندر مضاهاتها لا سيما مع زين، واسمه الحقيقي زين الرفيع وقد هربت عائلته من درعا السورية لتستقر في لبنان وهو منقطع عن الدراسة. و”كل الشخصيات الأخرى عاينت تلك الحقيقة المرة بطريقة أو بأخرى” كما تؤكد المخرجة.
الطفولة المهمشة، واللاجئون السوريون، وعاملات المنازل من إثيوبيا والفلبين المهضومة حقوقهن، وزواج القاصرات.. القيمة الوثائقية للفيلم هامة جداً، خصوصا وأنها تتناول مواضيع اجتماعية واقتصادية فتبعدنا عن مسائل الحرب التي أشبعتنا بها الأفلام اللبنانية. لكن أين السينما من ذلك؟
المادة الواقعية دسمة لكن تحولت سينمائياً إلى تخمة طمرت قصة كادت تكون متماسكة لو ربطت الحبكة بخط مركزي واضح دون أن يضيع في تشعبات وتفاصيل مطولة وددنا لو تركتها في الخلفية. بيروت “التحتية” تصورها أيضاً لبكي من فوق، بأسلاكها الكهربائية وعشوائية معمارها، ثم أدختنا أروقة المحاكم والسجون.. جميل، لكن على طريقة كليب! وموسيقى المنتج وزوج المخرجة خالد مزنر “يضغط” على الميلوديات حيث يجب لتحريك تأثير “شعبوي”. فنبكي ونضحك حسب ما سطروه لنا وفي لقطات متوقعة بلغت سخريتها الذروة عندما ترافع نادين لبكي بنفسها وفي دور المحامية عن الطفولة المهمشة.. الطفولة التي تعمل وتتعرض للتعنيف، كما تدافع نوعاً ما عن “ذنبها” في الانتماء إلى الطبقة البورجوازية كما تتهمها الأم خلال المحاكمة فتقول لها “ما عشته أنا لن تعيشيه أبداً”. والأم الحقيقية التي ألهمت هذه الشخصية في الفيلم كانت قد أنجبت 16 طفلاً..
نجح منظمو كان هذا العام في منع الصحافيين من مشاهدة الفيلم قبل العرض العالمي الأول حتى لا تنكد انتقاداتهم المتوقعة حماسة طواقم الأفلام على البساط الأحمر. وكان لهم ذلك، فبدا التأثر واضحاً على نادين لبكي وهي تصعد مدارج قصر المهرجانات. في نهاية العرض وقفت القاعة لتقف وتصفق لمدة نحو 15 دقيقة للمخرجة وفريقها، فهل يؤثر ذلك على لجنة التحكيم خصوصاً إن كانت تهوى قصص الأطفال والمهمشين وإن جاءت المخرجة من بلد عربي لتشارك في دورة سعت إلى تسليط الضوء على النساء؟
وكان “أنا دانيال بلايك” للعظيم البريطاني كان لوتش قد فاز بالسعفة الذهبية عام 2016، وانتهى الفيلم بمرافعة “غيابية” تدافع عن العاطلين والمنبوذين. لكن فيلم لبكي بمثابة “دانيال بلايك” فاشل وثرثار.