«كلب أندلسي» للمخرج لويس بونويل.. الحرية الجنسية مطلب للتحرر الفكري والسياسي والاجتماعي

 

عندما بدأت السريالية بالظهور، كان من أهم ما قامت به الدعوة إلى هدم كل التقاليد والنظريات الفكرية والجمالية للفن، تحرير اللغة من الجمود كي يستطيع الشاعر والفنان التعبير عما يدور بداخله من هواجس وشك وجنون، من دون أن يعطي للرقابة الذاتية أو السلطوية الأخرى أي دور في إبداعة.

الشاعر الدادئي تازارا أعلن في إحدى المناسبات: نحن نريد أن نكون أحرارا، يعني نود العيش والحياة من دون قانون، نحن لا نؤمن أو نعتقد بشيء، دورنا هو هدم كل ما تم بناؤه لليوم، في مجال الفن والدين والأدب والموسيقى.

نحن نريد حياة جديدة، حياة أكثر سهولة من دون خداع. نحن لسنا حزبًا سياسيًا، ولسنا مجموعة، كون كل واحد منا له فكرته الخاصة، لكل واحد شخصيته الخاصة، ونبحث تجديد الكون. الفن يجب أن يكون نزهة مسلية، لا شيء الا السعادة السهلة والطبيعية. نحن هدّمنا فكرة الإله لكننا استبدلناه بدين آخر، هو الفن والجمال، بالتأكيد نحن ضد كل دين، الحب للجمال هو السعادة.

بريتون يرى بأنه لا توجد قاعدة للشعر وعلى الشاعر الإبحار في اللاوعي ويكتب من دون تفكير، الشعر هو خربشة على الورق للتعبير عن الخيال والروح.

لويس بونويل وسلفادور دالي في فيلم «كلب أندلسي»، عام 1929، قاما بإخراج فيلم من دون قصة أو مسار درامي، مجموعة من الأحلام والكوابيس المزعجة تم تصويرها بأسلوب غامض، ومبهم الصور في هذا الفيلم لا تخضع لقواعد فنية أو جمالية ومن الصعب تأطيرها وشرح معانيها أو استخدام المنطق لفك شفرات هذا الجنون.

كان الهدف إحداث صدمة عنيفة بداخل المشاهد وإدخاله في متاهة الجنون، الفن هنا ليس وسيلة لإلقاء مواعظ اجتماعية أو أخلاقية، الفن هنا وسيلة لتوثيق القلق الإنساني ومحاولة لهدم وتدمير الخوف بداخل روح الفنان والمتفرج.

الصورة السينمائية هدفها كشف المجهول والبحث عن اللامرئي وهي وسيلة للتعبير، تعبير لا يقيّده أي شي، هي رحلة إلى آفاق العوالم المطلقة، تحرير مطلق للفكر والخيال والروح.

الفيلم محاولة لتدمير قيم فكرية وروحية وفنية سائدة، هذا الهدم ضروري من أجل تأسيس روح جديدة، تحرير الإحساس الإنساني، تصوير واقعي للخيال المجنون، والألم والضياع ، في هذا الفيلم القصير نجد خلط العديد من القيم والأفكار، اظهار الرغبة واللذة الجنسية ثم تحريرها من قيود العرف والدين والتقاليد الاجتماعية التي تنظم العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، هذه النظم لها منابع قديمة منذ خلق الله الإنسان وأنزله للأرض، لكن القوانين بشرية تأتي لمصلحة الطبقة البرجوازية وأصحاب السلطة وتلبية لشهواتهم الخاصة بدعم ومساعدة رجال الدين.

هذا الفيلم يعتبر إنقلاباً جديداً على الفن السينمائي والفن بشكل عام في تلك الفترة ويظل له بريقه ورونقه الخاص وتأثيراته القوية إلى يومنا هذا، السينما هنا شكل وأسلوب جديد للتعبير المجنون، جعل الكثيرين من الشعراء يعيدون النظر في الفن السينمائي، كشكل فني وشعري قادر على إحداث ثورة في التفكير الانساني، لا تقل عن ثورة اكتشاف الكتابة والشعر.

نحن لسنا أمام رموز، الفيلم هو أشبه بحلم، تنّقل من مشهد إلى آخر من دون وجود أية علاقة ربط، التلاعب بالصورة و ايقاعها، إحداث نوع من التشويه المتعمد للصورة، بل تدميرها أحياناً، الصورة في هذا الفيلم تأتي مباشرة، عفوية، جمالها ناتج عن الاختيار العشوائي والفوضوي، كل صورة ولقطة تمّ اكتشافها مصادفة، لهدم أي دلالة أو معنى محدد، لا يوجد ميزات ووصف للمكان أو تعريف للشخصيات وتحديد للعلاقات بين الشخصيات والمكان والزمان، كل مشهد أشبه بصرخة شعرية، تأتي من أعماق روح إنسانية، تعاني من القلق والإضطراب في عالم تعصف به الحروب، أصبح الموت واقعًا، وليس شبحًا، الحياة والسعادة هي الشبح وهي الأمل المفقود.

الشعر في السينما كما في فيلم «كلب أندلسي»، ليست نتاج صور رومانسية، فالفنان لا يهمه أن يحقق متعة بصرية، أو تأثير عاطفي، السينما هنا هذيان روحي خالص، الفنان يتخذ من الفيلم وسيلة للتعبير عن ذاته، ولا يتدخل في شرح إبداعه، لكل متفرج حرية الفهم، الفيلم كالقصيدة يثير أسئلة وجدلاً ولا يقدم موضوعًا واحدًا، لا توجد وحدة موضوعية واحدة، ولا يوجد منطق، نحن نحلّق مع خيال فني بكل ما يحمله من فوضى وخيال طفولي مجنون، جنون بلا حدود.

لكننا لسنا خارج الواقع، نحن لسنا أمام ترف فني ساذج، كل لقطة في الفيلم لها منبع أسطوري يقدم لنا بونويل حقيقة الواقع بعمق وصدق، وبذلك يصبح الفيلم فضاءً فلسفيًا وفكريًا يثير الكثير من الجدل حول الحقائق المطلقة وماهية الإنسان، من دون الاعتراف بأي حاجز، أو خط أحمر.

الحلم في سينما بونويل يقول نعم للإنسان، يحاول إيقاظه من سباته وغفلته، كل حدث وفعل محاولة لتنشيط الفكر و الروح، الحلم لا يقدم لنا واقعًا قديمًا أو عالمًا مثاليًا، هو بمثابة بساط يتيح للواقع أن يسير عليه كي يتحدث عن نفسه بشكل مباشر وصادق.

بونويل أشبه بغواص يغوص في عمق الواقع، ويظهر على السطح حاملاً معه أصدافاً وأشياءً أخرى غريبة، بعضها مفزع ومقزز أحيانا، لا يمكننا أن نلوم أي غواص يغوص في البحر ويكتشف أشياء مقززة، بونويل حاول عبر مساره الفني إظهار حقيقة عمق الواقع ووضعه على السطح، محاولاً تنقية العمق كي يظل جميلاً وحيًا، فالشوائب في عمق البحر تضر بجمال وحياة الكائنات والكون.

بونويل استخدم المونتاج كأداة لخلق الفعل أو الحركة بأسلوب تشكيلي، في اللقطة الأولى من «كلب اندلسي»، يقوم رجل بفقع عين امرأة بوسطة موس حلاقة، اظهار هذا الفعل العنيف بلقطة كبيرة يحدث صدمة نفسية للمتفرج، ثم يربط هذا الفعل بلقطة لسحاب يسير باتجاه القمر ويخترقه، فهل يريد المخرج القول بأن العنف والقسوة هي واقع إنساني اكتسبه من الطبيعة؟ هل الطبيعة هي مصدر العنف والوحشية؟ هل الإنسان كائن وحشي بطبعه هو من نقل هذا العنف للطبيعة؟ هل الإنسان كائن متوحش بطبيعته ولا يمكن تعديل هذا السلوك؟

بونويل في اللقطة الأولى يؤسس لنوع جديد لرؤية الفن السينمائي، فتدمير عين فتاة جميلة، ما هي إلا إستعارة تدعونا لرؤية هذا الفن، كفن ساحر، علينا اكتشافه من جديد.

في هذا الفيلم، بونويل يرى أن الكبت الجنسي، يولد عنفًا، بل شبقًا جنسيًا، والسبب هو سطوة البرجوازية وهيمنتها، التي سلخت الإنسان من إنسانيته وحرمته من حرية المتعة الجنسية بفرض نظم واستغلال الدين وهيمنته، بينما تعيش الطبقة البرجوازية ورجال الدين والسلطة حياة مليئة بالملذات، تعيش بقية الطبقات حياة الحرمان، من وجهة نظر بونويل الحرية الجنسية، مطلب أساسي للتحرر الفكري والسياسي والاجتماعي.

بونويل فنان عبقري ومبدع، كان قدرًا للسينما، وكانت السينما قدره، بل هو قدرنا أن نغوص في حلم بلا حدود.

Exit mobile version