«سينماتوغراف» ـ صلاح سرميني
“كلمات، وحوارات مأثورة من الأفلام”، سلسلة ملاحظاتٍ تحليليّة، في كلّ مرة منها، أتوقف عند كلمة، أو جملة تقولها شخصيةٌ ما في فيلم روائي، أو تسجيلي، وأحياناً أقتطع جزءاً من حواراتٍ متبادلة ما بين شخصيتيّن، أو أكثر، ومن وحيّها، وهكذا أثير أفكاراً، وتساؤلاتٍ، وقضايا سينمائية، وهي محاولةُ نقدية من أجل قراءة بطريقةٍ مغايرة، والأهمّ، مفيدة، وإيجابية، ودعوة لمُشاهدة أيّ فيلم، وتفحص كلّ تفاصيله، والتي عادةً لا نُعيرها الأهمية النقدية التي تستحقها، حيث يتوجه اهتمامنا غالباً نحو الحكاية، وإعادة تدويرها تلخيصاً.
لن يكون الهدف من هذه السلسلة الحديث عن الفيلم نفسه، ولكن، فتح مساراتٍ فكرية، وجمالية أمام الجملة المُختارة، وتوسيعها، ولكن دائماً في فضاءات السينما.
***
من الأفلام الأجنبية (العالمية كما هو شائع)، أعتقد بأن المُولعين بأفلام “جان لوك غودار” لن ينسوا تلك الجملة الحوارية الشهيرة جداً التي يقولها “جان بول بولموندو” في فيلم “على آخر نفس”:
Si vous n’aimez pas la mer, si vous n’aimez pas la campagne, si vous n’aimez pas la ville…
!allez vous faire foutre
وترجمتها باللهجة المصرية: (لو مابتحبوش البحر، لو مابتحبوش الريف، لو مابتحبوش المدينة… روحوا في ستين داهيه).
وأيضاً تلك الجملة الطريفة التي يقولها “جيمس بوند” عندما يطلب مشروبه المفضل:
(فودكا مارتيني، مخلوطة بالخلاط مش بالمعلقة).
الأمثلة الشهيرة في التراث السينمائي العالمي كثيرة جداً، ولا تُحصى، وهي فرصة للتنقيب، واستخراجها، ونفض النسيان عنها.
في السينما المصرية، ما زلتُ أتذكر بعض الجُمل الحوارية التي سمعتُها في فيلم “المومياء” للمخرج الراحل “شادي عبد السلام”، كانت مكثفة، قوية، ونفاذة إلى درجة كنت أحفظ حوارات الفيلم عن ظهر قلب، وخاصة تلك الجملة الحوارية:
العمّ : إتبعونى، .. وانتبهوا، ولا تسألوا هنا، ما أنتم إلا حبّات رملٍ في جوف هذا الجبل (مؤثرات فحيح رياح).
ومازلنا جميعاً نتذكر، ونردد الجملة الشهيرة من “فيلم شيء من الخوف” للمخرج الراحل “حسين كمال:
ـ جواز عتريس من فؤادة باطل..
وإذا عدنا إلى الماضي أكثر، سوف نستحضر تلك الكلمات، أو “الإفيهات” التي كان يقولها “توفيق الدقن” في الكثير من أفلامه:
(أحلى من الشرف ما فيش، همبكة، الو يا أمم، استر يا اللي بتستر، يا آه يا آه، صلاة النبي أحسن، أيّ والله)، ……
من المفيد الإشارة أيضاً، بأن كلّ متفرج يمتلك مخزونه الخاصّ من الكلمات، والحوارات التي سمعها في الأفلام، وأعجبته، وحفظها عن ظهر قلب، ورُبما أصبحت بالنسبة له “تعويذةً سينمائيةً” تحميه من “الأفلام الشريرة”.
اليوم، يبدو بأنّ المخرجة المصرية “روجينا باسالي” مُغرمةٌ إلى حدٍّ بعيد باللقاءات الإنسانية، في فيلمها التسجيلي (88)، تخيّرت التزام الصمت، والإصغاء إلى شخصيّاتها النسائية، وتركتهم يتحدثنّ عن أنفسهن، وبالوكالة عنها، وعن ملايين النساء في مصر.
تقول إحداهن:
ـ إحنا مجتمع لا يقبل الاختلاف.
ـ إحنا مجتمع يطمئن لما يشوف إني إحنا كلنا قطعية واحدة (متشابهين).
في الحقيقة، هذه الخلاصة المُفجعة التي تقولها إحدى شخصيات الفيلم، تنطبق على كلّ شيء، بدءاً من الأفكار، والعادات، والتقاليد، والمظهر، وصولاً إلى الاختلاف الإبداعيّ.
سوف تصدمنا ـ رُبما ـ حقيقة أنّ كل الأفلام المختلفة في تاريخ السينما المصرية تعرّضت بقسوةٍ إلى إهمالٍ، وتهميش، وبدون صحواتٍ نقدية ما بين الحين، والآخر يقودها طليعيّون حقيقيّون، لبقيت تلك الأعمال مطمورةً في غبار النسيان.
نتذكر اليوم، مع الكثير من الندم، ما تعرضت له (نقدياً، أو جماهيرياً) دزينة من الأفلام في تاريخ السينما المصرية: المومياء (شادي عبد السلام)، حكاية الأصل، والصورة (مدكور ثابت)، التلاقي (صبحي شفيق)، القبطان (سيد سعيد)، عمر 2000 (أحمد عاطف)، سمع هسّ (شريف عرفة)، جنة الشياطين (أسامة فوزي)، عرق البلح (رضوان الكاشف)، وحتى بعض أفلام “يوسف شاهين” الأقلّ جماهيريةً، مثل: الاختيار، وفجر يوم جديد..
وهو سببٌ، من بين أسبابٍ أخرى، جعل التجريب في السينما المصرية يقتصر على محاولاتٍ خجولة في إطار السينما الجماهيرية، ولم يكن هدفاً جمالياً بحدّ ذاته، وكان نوعاً من “التجويد” في الكتابة السينمائية منحت بعض “التجديد”، ومن خلالها تجسّد الاختلاف عن السائد من الإنتاج المصري.
من جهةٍ أخرى، “التشابه” ظاهرةٌ عامة في السينما المصرية، وعندما نتحدث عن “الاختلاف” فهو نسبيّ، ومتأخر، ولكن، من الأفضل أن يكون نسبياً، ومتأخراً من أن لا يكون أبداً.
هذا الاختلاف يقوده حالياً مجموعة من السينمائيين الشباب (بالمفهوم العمريّ العربي) مهدّ له بعض السينمائيين الراحلين، وفي مقدمتهم “يوسف شاهين”، وآخرين شباب في تفكيرهم، ومنهم “يسري نصر الله”.
ولكن الاختلاف الحقيقيّ، الشبابيّ، بدأ مع “إبراهيم البطوط”، واستمر، وتكرّس مع آخرين، ومنهم: نادين خان، أحمد عبد الله، ماجي مرجان، هالة لطفي، آيتين آمين..
التجريب الحقيقي، الشكلانيّ، لم تعرفه السينما المصرية أبداً، ورُبما نجده في الهامش، وبالتحديد في صالونات، ومعارض الفنّ التشكيليّ، يختبئ خلف أعمال الفيديو آرت، والإنشاءات السمعية/البصرية.
ولكن، المبادرة السينمائية الأكثر شطحاً، وخطورةً على صاحبها (باستثناء مبادراتٍ قليلة جداً في السينما المصرية)، اتفقنا، أو اختلفنا معها، فعلها الممثل “هشام عبد الحميد” في فيلمه الأول كمخرج منحه عنواناً جذرياً (لا).
هذا الفيلم ينطبق عليه التعليق الذي قالته تلك الشخصية في فيلم (88) للمخرجة “روجينا باسالي”، وأسمح لنفسي بالاستيحاء منه، وهو الغرض الجوهريّ لهذه الملاحظات، وأكتب:
نحن نعيش مشهداً سينمائياً، ونقدياً محلياً لا يقبل الاختلاف، ويطمئن عندما يجد بأننا متشابهون.