معظم أبطال مخرجنا (صلاح أبو سيف الذي يحل اليوم الذكرى الـ 28 لرحيله عام 1996) من الناس العاديين، لذلك فإن الأماكن التى يتحركون فيها، غالباً، تكون فى الحارة أو السوق، أو مكاتب صغار الموظفين، أو الحمامات الشعبية، وبالضرورة تظهر التجمعات البشرية فى لحظة ما، داخل أفلامه.
هنا نلمس واحدة من أفكار أبو سيف التى تكاد تصل الى حد الايمان، وتعد، عنصراً جوهريا فى رؤيته، ينتقل بها من فيلم لآخر، على نحو يؤكد قيمته كفنان لاتتناقض أو تتغير توجهاته، حسب اتجاهات السيناريوهات التى يحققها، والتى يشارك فى صياغتها، حتى لو كانت لكبار كتابنا مثل نجيب محفوظ، فالواضح أن أبو سيف ابن حى بولاق العريق، صاحب التاريخ الحافل بالتآخى، ومقاومة الاحتلال، ترك أثرا فعالاً فى تكوين مخرجنا، وجعله يدرك أن الحياة من الصعب تحملها، من دون تساند: لاحقاً فى فترة الشباب وبفضل التجمعات اليسارية التى انضم لها خلال الأربعينيات تحول هذا الإدراك الى وعى بقدرة الناس – اذا اتحدوا – على تحقيق العدالة، وتصفية الحساب مع الظالمين.
بشئ من الانتباه إلى نهاية «ريا وسكينة 1953» نكتشف أن الشرطة هنا، كما فى العديد من أفلامه، تأتى متأخرة، ذلك أن السكان المحيطين ببيت القاتلتين، تكاتفوا جميعاً لانقاذ الضحايا فى الداخل، والامساك بالعصابة، وحين تقود قوى الأمن المرأتين المخيفتين – كما لو أن الشرطة هى صاحبة الفضل – يدرك المشاهد بالوقائع والصور، أن الناس هم الذين حسموا المعركة، فلولاهم لكان من المحتمل فرار مجموعة العتاة.
قبل «ريا وسكينة» حقق صلاح أبو سيف فيلمه المبكر «مغامرات عنتر وعبلة 1948» حيث تندلع معارك بين القبائل وبعضها البعض، بينها من ناحية والرومان من ناحية أخرى، ينتصر فيها الرومان المرة تلو الأخرى، حتى أن عنتر يقع أسيراً فى قبضتهم .. لكن النصر للعرب لايأتى إلا بعد توحد وتآزر القبائل العربية، ونجاحها فى أن تصبح شعباً واحداً، وبالتالى تتمكن من الوقوف فى وجه الغزاة.
فى «لك يوم ياظالم 1951» يظل الصديق الخائن القاتل، – أداء محمود المليجى – حراً لاينكشف أمره، ويواصل آثامه، محاولاً ازهاق روح عمة البطل محسن سرحان، فردوس محمد وزوجته فاتن حمامة، طامعاً فى الاستيلاء على الحمام .. يكاد ينجح فى مسعاه، لولا تدخل الجيران، أهل الحارة بشهامة الى جانب الزوجة والعمة .. يطاردون الوغد، من مكان لآخر، حتى يسقط فى المياه المغلية بالغطس، ويلقى حتفه.
بعيداً عن روح الصرامة، قريباً من أسلوب الكوميديا، تتجه عربات الكارو و«الحناطير» محملة بأهالى بولاق لانقاذ ابن حيهم، «الأسطى حسن 1952» من ورطاته المتتالية بعد انسلاخه عنهم، والقاء نفسه فى أحضان الطبقة المخملية العابثة التى كادت تقضى على حياته.
فى العام التالى لـ «ريا وسكينة» يقدم أبو سيف «الوحش 1954»، مؤكداً أن الخوف الفردى يقتل الإرادة، ويتسبب فى بروز ظاهرة الطاغية، الذى يفرض الإتاوات على الآخرين، ويستخدمه الباشا الاقطاعى كمخلب اضافى ينفذ له أوامره مقابل حمايته .. لكن مع نهاية الفيلم يدرك الناس أنهم قوة لايستهان بها إذا تحلوا بالشجاعة والتعاون، خاصة حين تأتى لحظة تصفية الحسابات .. وها هى الجموع تواجه الوحش ورجاله، تطاردهم من حارة لحارة، ومن بيت لبيت، وتهزمهم، قبل وصول الشرطة، التى تصل كالعادة متأخرة.
التأكيد على فكرة قوة الناس إذا اجتمعوا تكتسب المزيد من الأهمية فى الأفلام ذات الطابع الوطنى السياسى فى «لا تطفئ الشمس 1961» تكاد حبات الأسرة أن تنفرط، كل فرد فيها يعيش بعيداً – نفسياً – عن الآخرين، والأسرة أيضاً معزولة، لاعلاقة لها بأحد .. لكن الأسرة وأفرادها جميعا ينصهرون فى بوتقة الشعب كله فى الدفاع عن أرض الوطن ابان معركة السويس 1956.
تتبلور ذات الفكرة على نحو آخر، فى «لا وقت للحب 1963» .. الفدائى المطارد – رشدى أباظة – تتربص له القوات البريطانية – فى مدافن احدى مدن القناة، ما إن يقترب إلا ويسمع أغنية جماعية للأطفال، ذات طابع شعبى «خبى ديلك ياعصفور»، فيدرك أنها رسالة تحذير.
مرة أخرى، ليست أخيرة، تتأكد الفكرة فى «القاهرة 30، 1966» .. تجرى مطاردة الشاب الثائر – عبد العزيز مكيوى – وتطلق نحوه خمس رصاصات، لكنه، بخبرة ودراية، يذوب وسط الناس، يتلاشى تماماً أمام عيون المطاردين.
ومن الأفلام الجميلة عميقة المغزى التى أخرجها أبو سيف «البداية 1986» الذى قد يبدو أقرب للفانتازيا الكوميدية، لكنه، جوهرياً، تأمل واقعى عميق، فى كيفية صنع الطغاة واشتداد نفوذهم، وفهمهم لمقولة «فرق تسد»، فالطائرة التى وقعت أو هبطت اضطرارياً فى واحة مهجورة تغدو مجتمعاً، يهيمن عليه شيئاً فشيئاً الرجل اللئيم «نبيه بك» ويطلق عليه «نبهاليا» ويسيطر على الجميع، لكن مع آفاق الوعى التى تتفتح أمام الأفراد، يدركون أن توحدهم وتماسكهم مع بعضهم بعضا، سيضع نهاية للطاغية، ذلك أنهم الشعب، القادر بارادته، على تحطيم الطغاة وصنع مستقبل .. صدقت رؤية صلاح أبو سيف بعد أكثر من مائة عام من مولده..