«كيرة والجن».. صورة باهرة وأحداث خاطفة من حقبة الغليان الوطني

«سينماتوغراف» ـ عبد الله فرج

في 23 أكتوبر 1919 تعاون فنان الشعب سيد درويش مع فرقة الريحاني في مسرحية غنائية اسمها “رن”، وتضمنت هذه المسرحية مجموعة أغان تعبر عن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية الشديدة الحدة في تلك الحقبة.

ومن بين الأغاني، أدى سيد درويش بصوته “لحن العمال” الشهير بأغنية “الكُترة”، ومن كلماتها التي كتبها الشاعر بديع خيري “دخل بيناتنا اللي موقعنا .. في بعضنا وراح لك متصدر، فقسنا لعبته واتجمعنا.. لا يضيع شرفنا الله لا يقدر، عايشين فى وادي النيل نشرب.. من عدادات على مللي وسنتي.. تشوفنا إحنا تقول حنفية.. وتشوفه هو تقول بلاعة.. ربنا ما يوريكشى دوختنا.. الجيب نضيف أما البيت أنضف”..

هذا اللحن القديم كان الأغنية الغالبة على أحداث النصف الثاني من فيلم “كيرة والجن” من إخراج مروان حامد وسيناريو وحوار أحمد مراد وكذلك مستوحى من روايته (1919)، ومن بطولة كريم عبد العزيز وأحمد عز وهند صبري وسيد رجب مع أحمد مالك، ومن إنجلترا سام هازل دين، وتدور أحداثه في مصر خلال العقد الثاني والثالث من القرن الـ20.

في تلك الحقبة كانت مصر في حالة من الغليان في أعقاب حادثة “دنشواي” عام 1906، وما تبعها من مقاومة شعبية في مواجهة المستعمر الإنجليزي وحتى منتصف عشرينيات القرن، مرورًا بأحداث ثورة 1919 ونفي سعد زغلول ورفاقه.

كانت مرحلة تغلي بالأحداث والحكايات والدراما، وتليق بتجسيدها على الشاشات السينمائية والتلفزيونية على السواء، إلا أن تمثيلها لم يحظ بالتركيز الكافي في السينما المصرية، فرغم أن هذه الفترة ظهرت في أفلام “بين القصرين 1964 وسيد درويش 1966 وإضراب الشحاتين 1967″ فإن هذه الأفلام لم تتطرق إلى حكايات المقاومة الشعبية والعمليات المسلحة في وجه المحتل مثلما تظهر في “كيرة والجن“.

تبدأ قصة فيلم “كيرة والجن” مع مشهد يخطف انتباه المشاهد ويؤسس لعلاقته مع عناصر الفيلم الرئيسة؛ المشهد هو إعادة تمثيل باهرة لمذبحة دنشواي 1906 على صعيدي الصورة والمونتاج، لتظهر مثلما وردت في كتب التاريخ حتى إنه اقتبس العبارة الشهيرة للكاتب الإنجليزي جورج برنارد شو حول الحادثة “إذا كانت الإمبراطورية البريطانية تود أن تحكم العالم كما فعلت في دنشواي، فلن يكون على وجه الأرض واجبٌ سياسيّ مقدسٌ وأكثر إلحاحًا من تقويض هذه الإمبراطورية وقمعها وإلحاق الهزيمة بها”.

أما عناصر المشهد بالطبع هي عناصر الفيلم الرئيسة: المصريون والسلطة الإنجليزية المحتلة، وبالتحديد أفراد المقاومة والجيش الإنجليزي، فمن هذا المشهد يظهر دافع الشاب أحمد عبد الحي كيرة الذي يدرس الطب ليصبح طبيبًا في الصباح، وقائدًا لفرقة مقاومة في المساء تعمل على تنفيذ عمليات مسلحة فردية ضد الجنود الإنجليز.

ومن بعد ذلك تسير الشخصيات بالتوازي، ففي مقابل “كيرة” يظهر عبد القادر الجن الذي يحيا حياة منفلتة، يتاجر مع معسكرات الإنجليز ويتعاطى الهيروين ويدمن الكحول حتى تأتي لحظة تحوّله ليشترك مع المقاومة في عملياتها ويشترك مع كيرة في الدافع نفسه، عقب خروج الجماهير الشعبية في ثورة 1919، ليكتمل فريق المقاومة المتعدد الخلفيات والتوجهات، طبيب وسمسار ومُعلّمة وفتاة أجنبية وموظف سابق ومسيحيون ويهودي مصري وسليل أسرة ثرية.

 

ويشرح الراوي دوافع هؤلاء الأفراد لكنه لا يفصح عن الظروف التي جمعت هذه المجموعة غير المتجانسة، في حين تظهر الأحداث الظروف التي جمعت “كيرة والجن” وجاءت مصادفة غير منطقية تكررت في الفيلم.

ورغم إفصاح الفيلم عن دوافع أبطاله التي جاءت منطقية في أحيان كثيرة فإن المنطق غاب في بعض الأحداث المفصلية، فلم يكن قتل 3 أفراد من بين أكثر من 300 قتيل في أحداث ثورة 1919 يمثل دافعا قويا لتتحرك فرقة مقاومة “كيرة” لقتل العقيد الإنجليزي أثناء خروجه من منزله الحصين، لكنه كان سببًا يلوي به السيناريو عنق الأحداث لخلق مصادفة يلتقي من خلالها أحمد كيرة بعبد القادر الجن الذي خرج محاولًا الثأر لأبيه.

مصادفة أخرى غاب عنها المنطق في أحداث الفيلم، هي التقاء الطبيب أحمد كيرة بشابة إنجليزية نقلت طفلًا مصريًّا مصابًا بإصابات سطحية لتلقي العلاج في المستشفى الذي يعمل به، وبالمصادفة كانت هذه الشابة ابنة قاضٍ إنجليزي يحمل رتبة عسكرية كبيرة على كتفيه، وبالمصادفة ستنشأ علاقة بين الطبيب المصري والشابة الإنجليزية ويتعرف منها على بعض أسرار أبيها.

ومصادفة ثالثة يتغيّر فيها رد فعل “البلطجي” فيترك عبد القادر الجن يتمكن من الهروب بعدما أرشد الجنود الإنجليز إلى منزله قبل دقائق قليلة، ويدعه يفرّ رغم العداء الواضح والسابق بينهما.

ومن وراء المنطق أيضًا جاء مشهد القتال الأخير في الفيلم، البطلان المصريان كل على حدة يقاتل مجموعة تتكون من أكثر من 3 أشخاص مدة طويلة في الأزقة وتحت المياه، في حين يحمل كل منهما إصابة قاتلة، في مشهد ينافي المنطق الطبي.

وهذه المصادفات والعلاقات غير المنطقية كانت أبرز أوجه القصور في سيناريو كان من الممكن أن يكون أقوى مما ظهر في الفيلم، بخاصة أن مدة الفيلم تقارب 3 ساعات ويحفل بأحداث متشابهة ومتكررة في تنفيذ عمليات مسلحة ضد الإنجليز كان يمكن اختصارها.

ومن أهم مهارات مراون حامد الإخراجية قدرته على إدارة الممثلين، فإن لم يتمكنوا من تقديم أداء تمثيلي باهر لن يتراجعوا عن تقديم الأداء المطلوب للدور، وهو ما ظهر مع كل الأبطال بدءا من كريم عبد العزيز وهند صبري وسيد رجب الذين لم يقدموا أداءً يستحق الإشادة، لكن أداءهم في الوقت نفسه كان مقبولًا في المساحة التي تتطلبها أدوارهم، حتى أداء أحمد عز الذي لم يتغير عن أدواره السابقة في “الممر” أو “أولاد رزق” كان مناسبًا لدور الشاب اللعوب المنفلت الخفيف الظل الذي سيحتفظ بخفة ظله حتى بعد انضمامه للمقاومة المسلحة، والممثل الإنجليزي سام هازل دين أدى دوره بهدوء وبالقدر المطلوب إذ يتطلب دوره شخصية إنجليزي بارد المشاعر وعنيف وصاحب نظرات حادة.

ورغم فجوات سيناريو الفيلم ومشاهد القتال غير المنطقية فإن الفيلم حقق معادلة قلما تحققت في السينما العربية أخيرا، فهو فيلم حافل بالمشاعر الوطنية والمشاهد المؤثرة لإعادة تمثيل حوادث تاريخ الوطنية المصرية، وفي الوقت نفسه حافظ على درجة التسلية وإثارة انتباه الجمهور حتى آخر مشاهده، لكن مقارنته مع أفلام سابقة لمخرجه مروان حامد لن تكون في صالحه بالتأكيد.

Exit mobile version