«سينماتوغراف» ـ محمود درويش
عندما يتم اختيار فيلم محدد على أنه الأفضل في تاريخ السينما، فلا بد وأن يكون فيلما له مميزات خاصه قدمه مخرج أقل ما يوصف به أنه «مخرج معجزة سابق عصره». فهل هناك هذا الفيلم .. نعم موجود ويحمل اسم «المواطن كين»، وهو من إخراج أورسون ويلز، ولا عجب أيضا أنه أخرجه في سن الخامسة والعشرين، ودون سابق خبرة في إخراج الأفلام السينمائية وبعد تجارب سابقة في المسرح والإذاعة.
صنف فيلم «المواطن كين أو Citizen Kane» كأفضل فيلم في تاريخ صناعة السينما الأمريكية، وحل على رأس قائمة أفضل 100 فيلم التي أعدها معهد الأفلام ألأمريكي. والفيلم تم عرضه عام 1941، وهو ابيض وأسود ومدته ساعة و57 دقيقة.
وقد كتب سيناريو الفيلم أورسون ويلز بالتعاون مع هيرمان.جي، مانكوفينشن، واشرف أيضا على الإنتاج، وقام بدور البطولة فيه في دور تشارلز فوستر كين.
ولم يأت الفتى المعجزة جورج أورسون ويلز من عالم السينما والتصوير كمعظم سينمائيي عصره، وإنما جاء من عالم الصحافة والإذاعة والمسرح الأمر الذي ظهر تأثيره جليا عليه من خلال توظيفه الجميل لتقنيات تلك الفنون التي عمل بها سابقاً في فيلمه «المواطن كين»، كاستخدامه المميز للصوت والتعليق السردي في افتتاحية الفيلم.
وكان أورسون ويلز (1915- 1985) مخرج أفلام ومؤلفا وممثلا ومنتجا أمريكيا عمل في مجال السينما والمسرح والتلفزيون والراديو. وامتاز بإنتاجاته الدرامية المبتكرة وبصوته المميز وشخصيته، ويعتبر أحد أهم فناني الدراما في القرن العشرين.
حاز ويلز على شهرة لإخراجه وتقديمه تمثيلية إذاعية مقتبسة عن رواية ه.ج. ويلز «حرب العوالم» التي أدت، بسبب إذاعتها بأسلوب التقرير الإخباري، إلى إثارة الهلع بين الناس لاعتقادهم بحدوث غزو كائنات فضائية للعالم.
ويعتبر فيلماه المبكران Citizen Kane وThe Magnificent Ambersons من أهم الأفلام في تاريخ السينما. كما ويعتبر النقاد العديد من أفلامه الأخرى وخاصة Touch of Evil و Chimes at Midnight تحفاً سينمائية.
وقد تم اختياره عام 2002 كأعظم مخرج سينمائي في التاريخ في استطلاع نظمته مؤسسة الأفلام البريطانية. وعرف ويلز بنزعته الخاصة بالسينما والتي اثمرت عن عديد من المنجزات السينمائية التي لم يسبقه اليها غيره، ولهذا كان له نصيب كبير في التقدير العالمي سواء علي المستوي الجماهيري وإيضا بمهرجانات العالم بشكل عام.
وتدور أحداث فيلم «المواطن كين» حول حياة الملياردير «وليام راندولف هيرست» أو تشارلز فوستر كين في الفيلم، وهو ناشر صحيفة ثري جدا، في شريط إخباري يروي حياة كين بأكملها، بما في ذلك الكلمة الغامضة الأخيرة التي نطق بها قبل وفاته، وهي كلمة «Rosebud» أو «البرعم» ليصبح موت كين الخبر المثير حول العالم. ويقوم المنتج والمراسل الإخباري جيري تومسون بالبحث عن معنى تلك الكلمة والتي يتضح في النهاية أنها الاسم الذي كان يطلقه تشارلز على زلاجته الخشبية التي كان يلعب يها صغيرا قبل أن يشمله السيد تاتشر برعايته وهو لم يتم بعد عشرة من عمره نظرا لضيق ذات يد أسرته التي قبلت التخلي عنه ليعيش حياة افضل.
وقد أجمع نقاد السينما الأمريكيون على أن فيلم «المواطن كين» يعد الأهم في تاريخ السينما لابتكاره أدوات وحيلا تعبيرية لم يستبقها أحد إليها، إلى جانب الشكل السردى للفيلم والاعتماد على وسيلة توظيف اسلوب العودة إلى الماضي أو «الفلاش باك» حيث تقوم مجموعة من الشخصيات بتقديم شهادات متباينة في مضمونها ومقاصدها وتفسيرات مختلفة حول نفس الشخصية أو ذات الحدث وتتداخل ذكريات بعض معاونى كين دون اعتماد على التسلسل الزمنى، إضافة إلى اعتماد الفيلم على الراوي في بدايته.
فعقب وفاة (كين) تطلب إحدى الصحف من المحرر (تومسون) ان يقوم بعمل عدة مقابلات وان يجرى حوارات مع كل من كان له صله شخصية بمستر (كين) أو عمل لديه سواء من أحبه أو كرهه وكذلك زوجته الثانية (سوزان). ولذلك، قام بالاتصال بكل من لديه تفسير للكلمة الأخيرة التي نطق بها من قبل ان يموت وكانت «Rosebud» محاولا الوصول إلى الرسالة التي أراد أن يوصلها الى من حوله، وبناء ماضي (كين) وفحص مذكراته .
يبدأ الفيلم بصورة بوابة حديدية ضخمة لقصر «زنادو» مقر إقامة الملياردير تشارلز فوستر كين، يعلوها حرف (K) دلالة على اسم صاحب الضيعة والقصر «كين Kane» والذي تستعرضه الكاميرا من الخارج في لقطة متابعة بجوار سياج مرتفع من السلك. وتتوقف الكاميرا أمام لافتة مكتوب عليها بالإنجليزية ممنوع الدخول (No TRANS PASSING).
وتظل الكاميرا بالخارج غير قادرة على اجتياز السياج ولكن يتم الاقتراب تدريجيا ثم اختراق السياج بعدسة خاصة تسمى «تيلي فوتو» بحيث يبدو القصر كله غارقا في الظلام، ولا ترى سوى غرفة واحدة بالدور العلوى تظل مضاءة ثم يطفأ النور وتصمت الموسيقى التصويرية. وإطفاء النور هو دلالة على قدوم الصباح ثم تضاء الأنوار التي تبدو من النافذة تعبيرا عن حلول الليل ويبدأ سقوط الثلوج. ثم لقطة ليد تحتل جانبا من الشاشة وهى ممسكة بكرة زجاجية وتظهر شفاه يعلوها شارب وتنطلق الشفاه بكلمة واحدة هى «Rosebud» وتتراخى قبضة اليد وتنفلت الكرة الزجاجية وتتدحرج وتصطدم بالأرض ثم تنكسر وتدخل الممرضة التي تقوم بوضع ذراعى الشخص الممدد فوق السرير فوق صدره ثم تسحب الملاءة وتغطيه تماما دلالة على وفاته وتقوم بإطفاء نور الغرفة. وباستثناء منظرى الشفاه التي تنطق بكلمة «Rosebud» ومشهد دخول المرضة فكل ما تقدم يتم رصده من خلف النافذة. لقد سجلت الأحداث في هذا الجزء بكثير من التفصيل ثم يظهر على شاشة سينمائية داخل صالة عرض صغيرة بإحدى الصحف لقطات لجريدة سينمائية كانت تصدر عن مجلة تايم الأمريكية مقدمة أخبار شهر مارس «New On March».
وينطلق صوت المعلق في ذات الوقت الذي تعرض فيه الشاشة لقطات ومشاهد تؤكد سطور التعليق المقروء وتشرحه وتزيده أيضاحا. ويقول المعلق زنادو في فلوريدا هو أسطورة وبه أكبر حديقة خاصة في العالم، حيث يحوى أكبر مساحة للرياضة والترويج «مشاهد لحدائق وشلالات وحمامات سباحة وملاعب». وعلى صحراء خليج فلوريدا أقيم أكبر جبل خاص، وقد رست من حوله مائة الف شجرة وكسى الجبل بـ20 ألف طن من الرخام وشيد فوقه القصر والمتحف والمقنيات والتمثيل واللوحات التي تكفى عشرات المتاحف وتعرض مشاهد لمجموعة مما سبق «اصطبلات خيول وحيوانات الغابة، فيلة وأسود وجمال وطيور وسحالى في زنادو يعد ثاني أعلى تكلفة بعد بناء الأهرام في مصر». كما تعرض مشاهد من الجنازة ، حيث يقول المعلق: فى الأسبوع الماضى سجى جثمان تشارلز فوستر كين وتنتقل الكاميرا إلى مبنى قديم مع صوت المعلق يقول «من هذا المبنى كانت البداية حيث أصبح مالكا لـ 37 صحيفة ومؤسستين للنشر وشبكة اذاعية وامبراطورية من محلات التجارة والبقالة ومصانع للورق وأسطول عابر للمحيطات»، امبراطورية انتجت خلال خمسين عاما ثالث أكبر ثروة في امريكا.
وينتهى الفيلم بفشل (تومسون) في الحصول على أية بارقة أمل تلقى ولو ضوءا خافتا على كلمة «Rosebud». وهو بعد أن كان على يقين من أن الحصول على معنى الكلمة سوف يفتح كل الأبواب المغلقة على ملامح واسماء شخصيتة، فانه يعلن الاستسلام النهائي والاعتراف بأنه لاتوجد كلمة واحده يمكنها ان تفسر أو تلخص حياة الإنسان. وعندها يتعرف المشاهدون فقط على الزلاجة القديمة للطفل وهى تقذف في المحرقة لتتوهج كلمة «Rosebud» في النيران لكن (طومسون) كان قد غادر المكان وبالتالى لن يصل مطلقا إلى دلالة كلمة «Rosebud». وتتعدد التفسيرات في تأويل دلالة «Rosebud» وهل كانت حلما للطفولة وحنينا جارفا لكل ما حرم منه (كين) لحظه وضع الوصاية علية ؟ وهل كانت رمزا او علامة على البراءة أو كانت تعبيرا عن الحب او النجاح او الهروب من الفشل.
ويعد فيلم «المواطن كين» من أكثر الأفلام الأمريكية إثارة للجدل، وقد أحيط تصوير الفيلم بسرية تامة بسبب موضوع قصته التي تظهر تشابها كبيرا بين بطل الفيلم «فوستر كين» وبين شخصية الناشر الصحفي المعروق «وليام راندولف هيرست» في حياته العامة والخاصة. ولم يسبق لأي فيلم سينمائي قبله أن تناول شخصية أمريكية على قيد الحياة بمثل تلك الجرأة.