«سينماتوغراف» تقدم القراءة الأولى لفيلم افتتاح «برلين السينمائي»
«سينماتوغراف»: أحمد شوقي ـ برلين
انطلقت أمس الخميس 5 فبراير فعاليات الدورة الخامسة والستين لمهرجان برلين السينمائي الدولي، المهرجان الأكبر من حيث عدد الجماهير في العالم، ويكفي لإثبات ذلك ما قاله فيلاند سبيك مدير بانوراما المهرجان في افتتاح برنامجه بأن من صوتوا لجائزة الجمهور في بانوراما العام الماضي تجاوز عددهم 31 ألف مشاهد، قاموا بالتصويت فقط في أحد البرامج الفرعية للمهرجان الهائل، والذي يعرض هذا العام 401 فيلم خلال عشرة أيام.
إدارة المهرجان اختارت فيلم «لا أحد يريد الليل» أو «Nobody Wants the Night» ليكون فيلم الافتتاح، وهو من إخراج الإسبانية إيزابيل كوشيت (التي تُصر معظم وسائل الإعلام العربية أنها كوكسيت)، من إنتاج إسباني فرنسي بلغاري مشترك، والذي شاهدته الصحافة العالمية في عرضين خاصين أقيما صباح يوم الافتتاح، مع تعليمات معتادة بحظر النشر عن الفيلم إلا بعد إقامة حفل الافتتاح وعرض الفيلم رسميا في المساء.
الاختيار هذا العام لعب على وتر التوازن بين القيمة الفنية والجاذبية الجماهيرية، بعدما تسبب اختيار فيلم افتتاح الدورة الماضية “رجال الآثار” لجورج كلوني في استياء عام من تواضع مستواه. فاختار المهرجان أن يكون الفيلم فنيا بالأساس، لمخرجة مرموقة سبق وشاركت في مهرجان برلين ست مرات من قبل، بالإضافة لاختيارها عضوة للجنة التحكيم الدولية عام 2009، لكنه في نفس الوقت فيلم يمتاز بجاذبية جماهيرية وإعلامية تتمثل في لعب النجمة جوليت بينوش لبطولته، فينال المهرجان الحسنيين: يجذب الجماهير والأضواء بوجود النجمة العالمية، ويرضي محبي السينما الحقيقية بفيلم فني التوجه، وهو أمر نجح الفيلم في تحقيقه بصورة كبيرة.
دراما كلاسيكية قاسية
الفيلم يقوم على قالب سردي كلاسيكي تماما، فهو يحكي حكاية حقيقية، عن زوجة مكتشف مغامر سعى في بداية القرن العشرين للوصول إلى القطب الشمالي، تقرر أن تترك الولايات المتحدة وتتجه متتبعة خطاه نحو الشمال، فتعلق في جزيرة جرينلاند الجليدية وقت حلول الشتاء القطبي الذي يستمر لأشهر كاملة من الظلام والعواصف، تواجهها مع فتاة بدائية من السكان الأصليين، لتكتشف أن الفتاة البدائية كانت على علاقة جنسية بزوجها الذي استخدمها “لتدفئة فراشه” حسب ما ترويه لها الفتاة بسلامة نية.
الكلاسيكية لا تتمثل في الحكاية فقط، بل في طريقة سردها بالفيلم الذي يبدأ بصوت تعليق صوتي لراوي عليم يضع الخطوط العريضة للقصة على نمط لم يعد استخدامه مستحبا من قبل العديد من صناع الأفلام، لكنه هنا مقصود في ظل استمرار الفيلم حتى النهاية في سرد خطي متصاعد، تتطور فيه علاقة المرأتين اللتين تصبحان وحيدتين في مواجهة غضب الطبيعة، من كونهما في البداية امرأة متعجرفة آتية من المدينة، تتعامل مع الفتاة البدائية باستخفاف ودونية يختلطان بكراهية واحتقار عند اكتشاف علاقة الزوج بها، إلى علاقة صداقة وتكافل حقيقية تنمو مع اكتشاف كل منهما أنه لا سبيل لبقاءها على قيد الحياة سوى أن تلوذ بالأخرى (وخاصة ابنة المدينة بالطبع باعتبارها الأقل خبرة في التعامل مع هذه الطبيعة المخيفة).
كلاسيكية الفيلم وانقلاب العالم على بطلتيه، ومشاهد تعرضهما لأقسى شكل ممكن لغضب الطبيعة، وإجبارهما على الأكل بطريقة وحشية لضمان البقاء على قيد الحياة، وتحللهما الجسدي التدريجي، كلها أمور ذكرتني بشكل ما برائعة ستيف ماكوين “12 عاما من العبودية”، فكلا الفيلمين يقول شيئا عن مأساة وقوف نفس الإنسان في مواجهة أكبر من قدراتها، الألم والقسوة والتخلي المتدرج عن كل أشكال التحضر والرغبات الإنسانية، في سبيل هدف وحيد مجرد هو البقاء على قيد الحياة، وإن كان فيلم ماكوين يفوق بالطبع “لا أحد يريد الليل” في تكثيفه ودقته وقوة تأثيره.
عيوب الخيار الكلاسيكي
جودة رسم الشخصيتين الرئيسيتين وتطوير العلاقة بينها، وجودة تنفيذ مشاهد العواصف الجليدية التي تشعر المشاهد حقا بالرعب من مجرد التفكير في أجواء كهذه، كلها أمور لم تحم الفيلم من عيوب الخيار الكلاسيكي، وعلى رأسها سهولة توقع مسار الأحداث، فبمجرد أن يرحل الجميع ويتركوا المرأتين وجها لوجه في أيام النهار الأخيرة، يكاد كل من يشاهد الفيلم يجزم بأن الليل سيأتي سريعا، وأن حلوله سيذيب العداوة الصامتة بين البطلتين ويدفعهما للتقارب، وهو ما يحدث بالفعل ووفق التوقعات تماما.
مشكلة ثانية هي تأثير شكل السرد على طبيعة الأداء التمثيلي، والذي جاء من قبل جوليت بينوش في حيز المتوقع تماما، وبالرغم من أنها بطلة الفيلم بالكامل (تكاد تظهر في كل مشاهده تقريبا)، وبالرغم من كثافة المشاعر والتحولات التي يحملها الدور نظريا، إلا أنك لن تجدا إنجازا حقيقيا في مستوى أداءها. أمر أرى أن سببه الرئيسي هو أن الدور أصلا يمثل تحديا من طراز قديم، يجبر الممثل على خوضه بطريقة معتادة رغما عنه، وهو أمر لن تجده في الدور الثاني للفتاة البدائية آلاكا التي جسدتها رينكو كيكوتشي، لأن دورها ذو طبيعة غرائبية بعض الشيء، تعطي الممثل مساحة أكبر يتحرك فيها بأداءه.
الخلاصة هي أن الاختيار جاء مناسبا إلى حد كبير لفكرة فيلم الافتتاح التوافقي المرضي لجميع الأطراف، أما الفيلم نفسه، فقد امتلك كثافة درامية حقيقية، مدعومة بمستوى ممتاز من تنفيذ المشاهد، لكن يعيبه الكلاسيكية الشديدة في السرد، والتي أثرت بوضوح على مستوى الأداء التمثيلي ومدى قدرة الفيلم على الإدهاش والتأثير.