«لا يهمّني إنْ دخلنا التاريخ هابطين كبرابرة» الفائز بالجائزة الكبرى لـ «كارلوفي فاري السينمائي»

كارلوفي فاري ـ فيكي حبيب

التفكير بتاريخنا الأسود يجعل الواحد منا يعيد النظر بأطروحة والتر بنيامين «ملاك التاريخ» التي يبدو فيها ملاك التاريخ صارفاً وجهه نحو الماضي، وبينما تطالعنا سلسلة من الأحداث، يرى هو فاجعة واحدة تراكم حطاماً فوق حطام وتلقي بها عند قدميه. الملاك يود لو يبقى، ويوقظ الأموات، ويلحم الشظايا، لكن شدة العاصفة تدفعه بلا توقف نحو المستقبل الذي يوليه ظهره، بينما تنمو كومة الحطام أمامه صوب السماء. هذه العاصفة هي ما نطلق عليه التقدم».

بهذه الكلمات يقدم المخرج الروماني رادو جود فيلمه الروائي الفائز بالجائزة الكبرى في مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي، جائزة «الكريستال غلوب»، بعنوان «لا يهمّني إنْ دخلنا التاريخ هابطين كبرابرة» (I do note care if we go down in history as barbarians).

ولا ريب أن العنوان الذي لا يخلو من موقف صريح فاضح، يحمل في ثناياه شيئاً من أطروحة بنيامين (مفكر يهودي) التي استلهمها من لوحة للرسام الشهير بول كلي بعنوان «الملاك الجديد»، كان اشتراها من أحد معارض الفنان الألماني– السويسري في أوائل عشرينات القرن العشرين. ويتأكد ذلك حين يحيلنا ملف الفيلم إلى اجتماع وزاري عقد ذات صيف من عام 1941، وترددت فيه هذه الكلمات («لا يهمّني إنْ دخلنا التاريخ كبرابرة») لـ «تستهل حملة التنظيف العرقي على الجبهة الغربية».

حملة لم يفلت من مخالبها بنيامين نفسه الذي حاول نقد الفكر التنويري الأوروبي لاعتقاده بأنه السبب الذي جرّ العالم إلى حروب واستعمار، ففضل، كما تخبرنا كتب التاريخ، الانتحار على الوقوع في يد النازيين. وانطلاقاً من معتقداته هذه، يحملنا الفيلم إلى رومانيا، ليصوّر «مجزرة»، ولّدت عند بعض الأوروبيين شعوراً بحرج كبير من النظر إلى الوراء إلى الماضي، فيما أبى آخرون الاعتراف بها وتذكرها.

أو هذا على الأقل ما يصوره الفيلم الروماني الذي كافأته لجنة تحكيم مهرجان كارلوفي فاري (مؤلفة من كاتب السيناريو الإرلندي- الإسكتلندي مارك كازان والممثلة الكراوتية زرينكا شفيتسيك والمنتجة الإيطالية مارتا دونزيللي ومدير أكاديمية السينما في براغ زدينك هولي والمخرجة الألمانية نانوك ليوبولد) بجائزتها الكبرى (25 ألف دولار).

ويقيناً ان الفيلم الذي شهد عرضه العالمي الأول في المدينة التشيكية، لن يمر مرور الكرام عند عرضه في الصالات الرومانية، بل يتوقع أن يثير جدلاً كبيراً من حوله لمساءلته التاريخ، وطرح أسئلة قد تبدو منحازة إلى اليهود الذينـ كما يشير في حبكته، وقع منهم 380 ألف مدني ضحية لتحالف رومانيا في حينه مع ألمانيا النازية، وتعسف المارشال إيان أنطونيسو الذي أمر بإعدامهم بعد هجوم مفاجئ على قواته، في ما سيطلق عليه الفيلم اسم «المحرقة الرومانية» أو «مجزرة أوديسا».

الماضي الراهن

لكن هذا لا يعني أننا أمام فيلم يدور في الماضي، بل على العكس، فإن المخرج الروماني الذي عرف عالمياً عام 2015 بعد فوز فيلمه «أفيريم!» بجائزة الدب الفضي لأفضل إخراج في مهرجان برلين، اختار الفترة الراهنة لتشكل زمن الأحداث من خلال قصة مخرجة مسرحية تدعى «ماريانا مارين» تعمل على إعادة تمثيل الـ «أوديسا»، ما يضعنا أمام إعادة تركيب أحداث، تبدو غايتها إظهار العنصرية في رومانيا اليوم. ولنا أن نتخيل حجم العراقيل التي ستصطدم «ماريانا» بها، بخاصة من جانب ممثلين وطنيين يأبون قراءة التاريخ من وجهة نظر المخرجة المنحازة لليهود ولما تكبدوه من خسائر في الأرواح.

بعض الممثلين سيمتنعون عن متابعة التصوير. وبعضهم سيدخل في نقاشات عقيمة مع المخرجة من دون أن يتمكن أحد منهم في إقناع الآخر بتبريراته حول من هي الضحية ومن الجلاد في تلك الصفحة المؤلمة من تاريخ رومانيا… لتسدل الستارة على المسرحية عند تقديمها في بوخارست على مشهد أراد رادو أن يجسد فيه مفهوم «عادية الشر» الذي اشتهرت بصياغته عالمة الاجتماع اليهودية حنا أرندت لفهم إشكالات الواقع المعاصر، هي الحاضرة كتاباتها بقوة في الفيلم من خلال قراءات، أحياناً طويلة، من أعمالها على لسان بطلة الفيلم، مخرجة المسرحية. مشهد معبر يصفق فيه الحضور بقوة للمارشال البطل الذي يطهّر مدينته من الأعداء، بينما نرى النصر على وجوه العامة وهم يرون المدنيين اليهود يحترقون.

وبموازة الأزمة العامة التي تدور حولها الحبكة، وتحديداً أزمة نكران تلك الصفحة من تاريخ الحرب العالمية الثانية، يصوّر الفيلم، وإن بخجل، أزمة داخلية لبطلته التي سرعان ما نكتشف أنها حامل من صديقها الذي لا يتردد في مواجهتها بأنه قد ينكر الجنين إن أبصر النور… وكأن المخرج أراد التشديد على فعل النكران الذي يتردد طوال الشريط، سواء بالحديث عن العام أو الخاص وما يستتبعه من مشكلات وخيبات.

وإذا كان التاريخ السياسي حاضراً بقوة في الفيلم، فإن الواقع السياسي الراهن لم يخل من الكلمة التي ألقتها منتجة العمل أدا سالومون خلال استلام جائزة كارلوفي فاري في حفلة الاختتام، والتي أطلقت فيها دعوة لتحرير المخرج وكاتب السيناريو والمنتج أوليغ سينتسوف الذي رفض عام 2014 ضم شبه جزيرة القرم (مسقط رأسه) إلى روسيا التي اتهمته في المقابل بالعمل على تنظيم مجموعات إرهابية، وصدر حكم بحقه بالسجن لـ20 سنة.

رومانسية برازيلية

وبعيداً من السياسة، نال فيلم «سلّة فلوريانوبوليس» للأرجنتينية آنا كاتز جائزتي لجنة التحكيم الخاصّة (15 ألف دولار أميركي) وأفضل ممثلة لميرسيدس موران، إضافة إلى جائزة «الاتحاد الدولي للنقّاد». ويصور العمل عائلة أرجنتينية تسافر في رحلة استجمام إلى البرازيل حيث سيكون أفرادها على موعد مع الحب والرومانسية.

أما جائزة أفضل ممثل فمُنحت لموشي فولكنفلينك عن دوره في الفيلم الإسرائيلي «فداء» (Redemption) للثنائي جوزف مادموني وبُواز يهوناتان ياكوف، بينما حصد التشيخي أولمو أومرزو جائزة الإخراج عن فيلمه «ذباب الشتاء» (Winter Flies). ونال فيلمان تنويهين من لجنة التحكيم وهما «رجل القفز» (Jumpman) للروسي إيفان أي. تفردوفسكي و «قصة الحب» (History Of Love) لليوغوسلافية سونيا بروسانك.

وفي مسابقة الأفلام الوثائقية، نال فيلم «شهود بوتين» (Putin’s Witnesses) للأوكراني فيتالي مانسكي الجائزة الكبرى لأفضل فيلم (5 آلاف دولار) ، فيما ذهبت الجائزة الخاصة للجنة التحكيم إلى «والدن» (welden) للسويسري داميال زيمرمان. وفاز فيلم «جبل سليمان» (suleiman mountain) للروسية أليزافتا ستيشوفا بالجائزة الكبرى في مسابقة «شرق غرب» (15 ألف دولار)، فيما نال «وادي الزهور» (Blossom Valley) للهنغاري لازلو تسشوجا جائزة لجنة التحكيم الخاصة (10 آلاف دولار).

أما جائزة الجمهور فكانت من نصيب «رجل المطر» (Rain main) الفيلم القديم للمخضرم الأميركي المكرّم في المهرجان باري ليفنسون، علماً بأن الفيلم يحتفل هذا العام بعيده الثلاثين (1988). وبهذا يكون التكريم لمخرجه باري ليفنسون، جاء تكريمين: تكريم من الجمهور الذي أعطاه صوته وتكريم من المهرجان بمنحه جائزة «كريستال غلوب» لإنجازاته المؤثرة في السينما العالمية.

Exit mobile version