يصعب تقديم سيرة ذاتية بصورة سينمائية، فرغم أن أغلب الأفلام التي قدمت في هذا السياق حققت نجاحا وكان لها رونق خاص إمتازت به عن غيرها من الأفلام الروائية العادية إلا أن أفلام السيرة الذاتية تحتاج إلى رؤية حساسة تجاه الشخصية التي يتم تناولها، لاسيما إن كانت شخصية بطولية تحتاج إلى بلورة، كما هي شخصية «نيرجا بهانوت» صاحبة الـ23 عاما التي ضحت بنفسها لإنقاذ حياة المئات من ركاب الطائرة «البانام 73» الأميركية المتجهه من كراتشي إلى نيويورك مرورا بفرانكفورت.
قدمت السينما الهندية في عام 2016 نموذج بطولي يتسق مع رؤيتها للبطل السينمائي، فكانت قصة نيرجا بهانوت القصيرة المليئة بالكثير من الأحداث الثرية التي تكفي لبناء حبكة قيمة تتضافر عناصرها معا لتوضح دوافعها نحو البطولة التي جعلتها علامة في الطيران على مستوى العالم، وجعل اسمها عنوانا لأحد جوائز الشجاعة بعالم الطيران.
فعلى الطريقة الهندية أتت حكاية نيرجا التي قدمها المخرج الهندي رام مدهفاني الذي يعتبر فيلم نيرجا ثاني أعماله السينمائية الطويلة رغم حضوره في عالم الإعلانات والتلفزيون، مع هذا قدم مع كاتب السيناريو والحوار سايوين كوادراس، عمل متوازن من حيث الحبكة والتأثير.
بطولة هندية
من المعروف بالسينما الهندية لاسيما التجارية اهتمامها بالبطل والبطولة، وهو ما تستمده من المعتقدات الدينية القديمة التي تعتبر البطل جزء من الإله يمتاز بصفات خاصة تجعله لا يخطأ ويستطيع تجاوز الصعاب، الشخصية التي نحن بصددها بهذا الفيلم هي شخصية نيرجا بهانوت التي ضحت بحياتها وأنقذت 359 روح بذكاء وشجاعة كلفتها حياتها في مواجهة الإرهاب الذي حاول النيل من أبرياء للفوز بمكاسب خاصة.
أمتاز فيلم «نيرجا ـ Neerja» بحبكة تعتمد على حيلة التداخل والتوازي ما بين الحكايات القديمة والحديثة، فلقراءة أفعال نيرجا وتفسير شجاعتها كان لابد من إلقاء نظرة متمهلة في حياتها السابقة، والصعوبات التي واجهتها وجعلتها تمتاز بتلك الشجاعة وكذلك أسرتها الداعمة لخطواتها في الحياة، حيث قدم الكاتب «سايوين كوادراس» بذكاء وحساسية خاصة نيرجا الضعيفة المستسلمة للمتغيرات من حولها حتى نقرأ من خلالها روحها المرحة، الشجاعة والصادقة في مواجهة الأزمات، دون غفلان تأثير الصدمة عليها.
ومن خلال ما يجاوز الساعتين ينقسم بها الفيلم إلى ثلاثة مراحل الأولى التعريف بشخصية نيرجا المرحة المفعمة بالحياة، والثانية الوجه الآخر لها أثناء عملية اختطاف الطائرة وظهور أعماقها الحزينة وأخيرا تكريم لشخصية نيرجا على الطريقة الهندية من خلال أغنية تحمل معاني الشجاعة والشجن، ولا يمكن اعتبار تلك الطريقة قللت من قيمة الفيلم في سياق قراءته كسيرة ذاتية، ولكنها سبيل لفهم فكر السينما الهندية وصناعتها لعمل متوازن يحمل ملامح تلك السينما كما يبقي على قيمة الشخصية المقدمة.
حبكة محكمة
ما يميز فيلم نيرجا هو التوازن في الطرح، ويمكن اعتبار السيناريو سار كما يقول الكتاب، حيث البداية والتصعيد ثم النهاية، وحل التصعيد والذروة صلب الفيلم، وألقي الضوء على قضية شهيرة هزت منتصف ثمانينيات القرن المنصرم وبالتحديد في 1986، حيث اختطاف طائرة «البانام الأميركية» الرحلة 73 من قبل إرهابيين مسلحيين بهدف المساومة على الطائرة فور إجبارها على الهبوط في قبرص لإخراج عدد من السجناء التابعين لجماعة أبو نضال، التي زاع صيتها في سبعينيات القرن المنصرم، وهو ما لم يهنئ به الخاطفين حيث تم محاصرة الطائرة بمطار كراتشي بباكستان وقت هبوطها لإنزال عدد من المسافرين على متنها حيث كانت متوجهة إلى نيويورك مرورا بفرانكفورت.
اعتمد المؤلف التركيز الهرمي لتقديم شخوص فيلمه، حيث الشخصية الأهم وهي نيرجا التي امتاز رسمها بالسهل الممتنع وتضافر رسمها مع حبكة الفيلم بصورة عامة، حيث نقرأ الشخصية على مدار الأحداث، وكذلك شخصية الأم وهي المعادل الروحي لتلك الفتاة التي تواجه الصعاب والتي تنتابها دوما مشاعر الخوف والقلق، وصولا إلى الأربعة المسلحين الإرهابيين الذين صورهم «سايوين كوادراس» متفرقين ومشتتين بل ووصل الحد إلى الإضطراب النفسي لدى إحدهم، ولم يضف أي بعد آخر لهم، حيث ظهرت شخوص الإرهابيين أحادية التكوين ولم يتعمق في دواخلهم، بل وظفهم للتركيز على الشخصية البطل نيرجا.
سلاسة الامتاع
بمشاهدة فيلم نيرجا لا تشعر كمشاهد بالملل للحظة واحدة، حيث سلاسة الحبكة والأغاني الثلاثة القليلة التي وزعت بحكمة على الأجزاء الثلاثة للفيلم والتي خلقت نوع من التوحد مع العمل السينمائي، لاسيما وسط حالة التعاطف التي تخلقها الأحداث المأساوية المتعاقبة وحالة انتظار العاصفة في أي لحظة، كما أن مونتاج الفيلم لـ«مينوشا آر بالداوا» التي اشتهرت بالعمل ضمن الأفلام الوثائقية والقصيرة وهو ما مكنها من التعامل مع القصة نظرا لكونها سيرة ذاتية، ما بين الماضي والحاضر واستحضار تيمة الفلاش باك وذلك من خلال قطعات متلائمة مع تصاعد وتيرة الأحداث.
فيما تعتبر موسيقي الهندي «فيشيل خورانا» من أنجح ما قدم الفيلم، حيث جاءت الإيقاعات بسيطة واعتمد على جمل لحنية قليلة لكنها تنقل التأثير للمشاهد، من خلال دقات قليلة جسدت حالة الترقب وانتظار الموت في أي لحظة، ولم نشعر بزخم الموسيقي على مدار الأحداث وإنما حضرت في أوقات بعينها لتجسيد التأثير الدرامي، فيما جاء التصوير جيد بصورة عامة للمصور «ميديش ميرشانداني» وتوازنت لقطاته ما بين حالة نيرجا وما حل على ركاب الطائرة.
تعتبر الشخصيتين الأبرز في الفيلم هما الأم والإبنة، وجسدت دور نيرجا الهندية الشابة سونام كابور واستعرضت ملكاتها التمثيلية التي كشفت عنها بقوة في عدة أفلام سابقة أهمها «رانجاهانا»، فيما قدمت «شبانة عزمي» دور الأم بكل ملامح القلق والحزن والشجن على ابنتها التي غادرت الحياة في أبهى سنوات عمرها وقبل احتفالها بعيد مولدها 23، وقدم الهندي «جيم سارب» دور احد الإرهابيين الذي يحمل اسم خليل، حيث عبر عن حالة الغضب والانتقام التي حملها وعبر عنها.
وكان من الممكن أن يعتبر فيلم نيرجا سيرة ذاتية تقليدية تقدم روح البطولة ممثلة في رئيسة مضيفات تحب عملها وتجتهد لحماية الآخرين، ولكن ما ميز الفيلم هو ترابط عناصرها تحت قيادة المخرج رام مدهفاني والسيناريو المحكم والمتصل دون قفزات وهو ما ساعد في إيجاد عمل مترابط عكس تأثير وفجاعة حاثة مر عليها ثلاثة عقود وتأثيرها مازال قائم في نفوس المكتويين بنار الإرهاب، واستطاع هذا الفيلم أن يحصد جائزة النقاد لأفضل فيلم ضمن جوائز «فيلم فير» الهندية لعام 2016.