*** أسـامة عسل
مخلصاً تماماً للدراما الشكسبيرية الخالدة وملتزماً بنكهة سينمائية فريدة، صنع المخرج «جول كوهين» هذه الملحمة التاريخية الشيقة، مستغلاً زخم النجومية الطاغي لـ «دنزل واشنطن»، الذي قدم أداءً مذهلاً بكل المعايير، رشحه لأوسكار أفضل ممثل في عام 2022 عن فيلم «مأساة ماكبث»، وهو العمل السينمائي الـ49 الذي أنتج عن نفس المسرحية منذ عام 1913 في فترة السينما الصامتة.
مرة أخرى وليست أخيرة تعود دراما شكسبير الخالدة إلى السينما، بعد أن قُدمت عشرات المرات فى كل أنحاء العالم بتنويعات متباينة، ورؤى متباعدة، وصلت في إحداها إلى أن تتحول لدراما موسيقية، وفى كل مرة تحقق نجاحاً جديداً رغم مرور قرون عديدة على وفاة مؤلفها العبقرى وِلْيَمْ شكسبير.
تجربة المخرج جويل كوين في هذا النص المسرحي، تستند إلى عملية إعداده سينمائياً، حيث أراد تقديمه بلغة بصرية استثنائية، فعاد بالمشاهد واللقطات إلى الأبيض والأسود والرمادي، وإلى شكل الكادرات المربّع الذي يذكّرنا ببواكير السينما، مما وهب الفيلم شعورًا تجريديًا لم نره من قبل في تجارب سابقة تعرضت لنصوص شكسبير بحرفية، وقد تعمد إخفاء العناصر البصرية التي حلّت محلها أقبية وجدران عالية وسقوف ودهاليز، وتم تقليص الديكور والإكسسوار إلى أقل ما يمكن، ليبقى المتفرج غارقاً مع الصراع والانتقام، مركزاً في الحوار الشكسبيري الفخم والمحمّل بأعمق الدلالات الفكرية والفلسفية.
وخلال مشاهدة «مأساة ماكبث» للمخرج جول كوين، يمكن ملاحظة أنه لم يضف كثيرًا إلى النص الأصلي، وفضل الإبقاء على روحه الأساسية، وفي المقابل بذل جهداً رهيباً ومميزاً في الحكي البصري، الذي ينقل النص من الحيز المسرحي إلى الوسيط السينمائي، واستخدم في ذلك ثيمات بصرية، وتقنية إخراجية بعيداً عن حرفة الكتابة الأدبية للسينما.
قصة ماكبث تبدأ ببساطة من نبوءة الساحرات له بتولي الملك ولصديقه بانكو بامتلاك سلالة من الملوك، ماكبث محارب قوي وشجاع يحترمه كل من يعرفه، تبدأ الأمور في أخذ منحى مرعب عندما يتشجع على تنفيذ قدره بيده بمساعدة من زوجته التي لا تملك إلا أن تطمح لحياة أفضل من خلال زوجها، وتقوم السيدة ماكبث بتدبير خطة لقتل الملك وتأمين العرش ليصبح لزوجها، وهذا المقطع من مسرحية ماكبث يؤكد أن دور «الليدي ماكبث» مهم وأساسى وقوى، ويحتم على أى نجمة تقوم بهذا الدور أن تتحلى بصفات القوة فى الأداء وحرفية الشر المختبئة وراء يدها الناعمة، وكانت النجمة فرانسيس مكدوماند، هي من قدمته، وهي نفسها منتجة الفيلم وزوجة المخرج جويل كوين.
يرتكب ماكبث أول جريمة قتل دموية لابن عمه الملك وينتزع منه التاج، ثم يخطط بعد ذلك لقتل صديقه وابنه الصغير، وهنا تبدأ الأحداث في أخذ منحى أكثر درامية، يفقد ماكبث توازنه ويطارده الذنب والأشباح، يلجأ لنبوءات الساحرات مرة أخرى ويطمئن أنه محمي من الأذى إلا إذا حدثت بعض المستحيلات، ولأن النص المسرحي يُعلي صوت القدر فإن المستحيلات تحدث بالطبع، ويصعد كل ملك فوق دماء الآخر، لا تنتقل السلطة بسلام أبدًا حتى وإن وصلت للنبلاء الذين فور ما يسمعون عن التاج يبدأ نبلهم في التلاشي، فذلك النبل مفهوم بالغ الهشاشة أمام قوة السلطة المطلقة التي يصعب مقاومتها.
يحفل هذا الفيلم الرائع بالإقتباسات «الشكسبيرية» البليغة والمعبرة والتي تصدر بمعظمها عن ماكبث كما عن الشخصيات الأخرى كزوجته والساحرات وخصومه، وفي الفيلم أيضاً بهاء الصورة والتشكيلات التي تثري دلالات المضمون السينمائي، وقد صنع المخرج جول كوين بيئة مثيرة ومستفزة لماكبث ذاته، يظهر فيها وحيدًا ومنعزلًا ومستقلًا عن واقعه، مكتفيًا بتخيلاته ونبوءاته وشطحاته الفكرية، حيث قام بتصميم قلعة ماكبث بطريقة تعبيرية، تجمع بين النمطين العصري والكلاسيكي، تُراعي في بنيانها مقاييس تنافي القصور والقلاع في الحقبة الأصلية للقصة، لأنها صنعت لغرضٍ معين، هو البوح والمكاشفة، فكانت بالنسبة لماكبث الملجأ لأفكاره الأكثر جموحًا، ومختبراً لهلوساته ووساوسه.
كما حافظت المعالجة السينمائية للأحداث على قدر من التوازن وثبات الذاكرة المكانية، فماكبث لم يهنأ بذلك المجد الملكي بل هو الذي رثا نفسه وندم على ما قام به من قتل الملك، ولكن ندمه لا يشكل شيئاً أمام شراسة زوجته ونزعتها العدوانية، وكما قالت بعدما تم قتل الملك: (يداي مثل يداك ملطختان بالدم، لكنني أخجل أن يكون لي قلب طاهر مثل قلبك).
يلعب دنزل واشنطن الشخصية الرئيسية بهدوء مميز، لكنه يطلق جمله الحوارية الداخلية بإيقاع موسيقي يعيد إليها طبيعتها الشعرية ويجردها من الأداءات المسرحية الصارخة، وتؤدي فرانسيس مكدورماند دورها بحرص ودقة نادرين فهي شخصية اشتهرت بشرها المطلق وجنونها، لكنها تضفي عليها آدمية ضرورية للنسخة الحديثة، وبجانب الأداء الرئيسي جاء اختيار الممثلة المسرحية كاثرين هانتر لتؤدي وحدها دور الساحرات الثلاث، وبجسدها المرن والطيع أجادت التعبير عن السحر، وصنع المخرج جويل كوين نسخة من مشهد الساحرات سوف يصبح أيقونة لمن بعده، لأنه لم يلجأ للأصوات الحادة والمصحوبة بصدى، بل ركز على الجسد أكثر من تأثير الصوت فصنع مشهدًا لا يُنسى.
جويل كوين هو آخر من تناول «مأساة ماكبث» كقصة رعب تعبيرية، وسبقه في ذلك أورسن ويلز عام 1948، حيث جاء تناول ويلز تعبيريًا في خيارات الإضاءة وزوايا التصوير، لكن المثير بنسخة كوين هو اقترابها من نسخة ويلز، وجعلها أكثر تجريدًا، ورغم ما تنتهي إليه عادة الأفلام التي تستلهم أفكارها من نصوص الشكسبيريّات إلى طرفَي نقيض، فإمّا توغل في المعالجات البصريّة حتى يكاد يختفي النص المسرحيّ، أو أنّها تسقط في بلاغة النصّ وتلغي أدوات السينما وتجعل أهميّتها لا تُذكر، إلا أن كوين ينجح في مد جسر التواصل بين هذين التناقضين.
«مأساة ماكبث» نسخة جويل كوين وفيلمه الروائي الأول، تحفة بصرية بلاشك، تؤرخ لمسيرته الجديدة بدون شقيقه إيثان، وتميل أكثر نحو أسلوب السينما، متفوّقةً على كلّ ما قدّمه الفن السابع من قراءات سابقة لها، لتكون أكثرها حداثة وتجريبية مع نص مسرحي يعد من أهم كلاسيكيات الأدب العالمى، لأنه بأسلوب فلسفي، يدين الشرّ ويؤكد عجز البشر أمام الأقدار.