«سينماتوغراف» ـ مهند النابلسي
مرة أخرى وليست أخيرة تعود دراما شكسبير الخالدة الى السينما، بعد أن قدمت عشرات المرات فى كل أنحاء العالم بتنويعات متباينة، ورؤى متباعدة، وصلت الى حد أن تتحول لدراما موسيقية، وفى كل مرة تحقق نجاحا جديدا رغم مرور أربعة قرون على وفاة مؤلفها العبقرى، الذي تحتفى السينما العالمية بذكراه هذا العام من خلال مهرجان بريطاني يحمل عنوان «شكسبير فى السينما».
«كن دمويا وجريئا وحازما»، بهذه الكلمات المبهمة الغامضة تعلق ساحرات القدر الثلاث اللواتي يمثلن الماضي والحاضر والمستقبل، على خروج ماكبث من معركته منتصرا التي استهل بها الفيلم الملحمي «ماكبث ـ Macbeth»، والذي عرض للمرة الأولى في مهرجان كان السينمائي، وينطوي على رؤية جديدة لبطل المسرحية المأساوية، ولماذا سلك الطريق المشؤوم للوصول إلى السلطة، وحسب إحصاء مجلة هذا هو الفيلم الثامن والأربعون الذي أنتج عن المسرحية منذ عام 1913 في فترة السينما الصامتة.
الدراما الشكسبيرية
مخلصا تماما للدراما الشكسبيرية الخالدة وملتزما بنكهة سينمائية فريدة، صنع المخرج «جوستين كورزيل» هذه الملحمة التاريخية الشيقة، مستغلا زخم النجومية الطاغي لمايكل فاسبندر، الذي قدم أداء مذهلا بكل المعايير.. انها الإعادة السينمائية لمسرحية شكسبير الشهيرة، التي تتحدث عن مقاتل جسور وقائد ملهم يتم احباطه بقمع شجاعته واندفاعه، ولكنه يستند للرغبة الكاسحة والطموح الجشع للقيام بالدور الذي رسمه له القدر.. انه عرض سينمائي ممتع للحقائق الدرامية التاريخية في زمن الحروب والفتوحات، متناولا واحدا من اكثر الشخصيات «الأدبية» شهرة وجدلا، متحدثا عن الشغف والطموح والخيبة والارتياب بزمن الحروب التي مزقت ذات يوم «اسكوتلندا»، وقدمت مسرحية «ماكبث» في العديد من الأفلام والمسلسلات، من بينها الفيلم الذي أخرجه أورسون ويلز عام 1948 ولعب فيه ويلز دور البطولة، والفيلم الأشهر للمخرج البولندي لرومان بولانسكي عام 1971 بعد شهور من وفاة زوجته «شارون تيت» على يد عصابة تشارلز مانسون.
فاسبندر وكوتيارد
يسحرك كمشاهد الاقتباس السينمائي «الدرامي-الشعري- الملحمي» للمسرحية الاسكتلندية الشهيرة، فيلم دموي وشجاع يحتوي على كم كبير من المشاعر والدماء والبرود، حيث زوجة جميلة طموحة وجشعة مندفعة، مهووسة بالسلطة والحكم، لا يوجد من هو أحسن من فاسبندر كجنرال قاتل مندفع مع النجمة الفرنسية «ماريون كوتيارد»، ولا يوجد قط من يستطيع تقديم هذه الملحمة أفضل منهما.
يأتي أداء فاسبندر مناسباً للدور تماماً، إذ يضع من روحه في كثيرٍ من المشاهد. ولا يمكن للمشاهد تفريق فاسبندر عن «ماكبث»، ولا يمكن فصلهما. فلا يشعر المرء بأنّه أمام ممثل يؤدي الدور، بل هو «ماكبث» فعلياً، فيما كلّ المشاعر التي يمر بها هي حقيقية مئة في المئة. ومن هنا، كان اختيار الفيلم ليترشّح ضمن جوائز عدّة في مهرجان الـ «بافتا» الإنجليزي لهذا العام، بينها «أفضل فيلم مستقل»، و«أفضل ممثل»، و«أفضل ممثلة»، و«أفضل مخرج».
ولم يضحي المخرج الفذ بالغموض «الشكسبيري» ليحقق شريطا شعبيا، بل انغمس مصمم الصوت والموسيقى التصويرية بأدق التفاصيل حتى سمعنا «صوت السيف الاسفنجي» وهو يمزق الأمعاء وينفذ للأعناق ويقطع الرؤوس فتنزف الدماء غزيرة.. تكامل هذا الأداء الصوتي المثير مع الموسيقى التصويرية المعبرة، ومع الرغبة البصرية الجامحة للاستحواذ على الأداء والحوار، مما انتج فيلما متكاملا صعب الاختراق: فماكبث «فاسبندر» بطل قدري استهلكته القوة والشعور الملح بالذنب لاغتياله الاجرامي للملك بتحريض زوجته، وهو مرعب في آن ومثير للشفقة، حيث تم تقديم دراسة سيكلوجية عميقة للجريمة والانهيار الذاتي التدريجي، تفوق ربما ما قدمه «دوستوفسكي» بروايته الخالدة «الجريمة والعقاب»، كما أبدعت (كوتيارد) بدور المحرضة التي ولدت العزم الكاسح لدى ماكبث، ثم انساقت معه بحالة «التفكك الداخلي».. وأدت بابداع كوتيار دور الليدي «ماكبث». القوة المحرّكة خلف زوجها، ونقطة ضعفه. إنّها كل شيء في عالمه، ولاشيء في آنٍ واحد؛ طموحه المطلق ونهايته السريعة. وقدمت ماريون ــ كعادتها ــ أداء مميزاً، ولا تضعف أمام أداء فاسبندر القوي للغاية. بل إنّها حتى تتفوّق عليه في مشاهدٍ كثيرة، ولربّما لهذا السبب أعطاها المخرج جاستن كورزل مشاهد فردية أمام الكاميرا، موازية للعدد الذي حصل عليه بطل الفيلم نفسه.
المعالجة السينمائية للرواية كان فريدا من حيث التأرجح بين النزعة لخلق الحياة والمجد وبين الرغبة الكاسحة بتدميرها.. ولا اؤيد هنا رأي بعض النقاد «المتسرعين» للفيلم بأنه أعطى الأولوية للأسلوب على حساب المضمون، بل أعتقد انه حافظ بمهارة على توازن دقيق متصاعد وحابس للأنفاس، مراعيا عناصر «الطموح والخوف والريبة والشعور بالذنب امتدادا للجنون التدميري الماحق»، وقد اقتحم العصور المظلمة بجرأة نادرة، مصورا عمق المأساة التراجيدية في «فرادة» درامية «مخيفة وممتعة».
كذلك لا اوافق التبسيط الساذج للملحمة الذي كتبه أحد الروائيين: «.. القائد ماكبث الذي اغتال حاكمه ليجلس مكانه، يشاهده الحارس فيقتله خوفا من تفشي السر، ثم يشاهده ثلاثة حراس آخرين وهو يقتل الحارس، فيقتلهم خوفا من انكشاف أمره، وبين الخرائب المتراكمة في الطرائق فهو يقتل بجنون كل من يلتفت اليه خوفا من ان يكون قد شاهد القتل.. ثم يصل لنتيجة «مضللة» وهو ينهي الأقصوصة: «في الليل سقط ماكبث قتيلا وهومضرج بدماءه».
جنون ماكبث
يقود ماكبث القوات الملكية بالمعركة الأخيرة، محققا الظفر للملك «دونكان»، ويشعر بالغيرة والحسد من تنصيب الملك لابنه «مالكولم» كأمير وولي عهد، وتحرضه زوجته الطموحة لكي يقدم على ما أضمر في سره، فيقدم على قتل الملك بمقصورته بعدة طعنات نجلاء مخضبا يديه بدماءه، ثم نرى أن ابن الملك قد شاهده بعد مقتل الملك، ولأسباب نجهلها نراه يتركه ليهرب ممتطيا حصانه.. ثم يذهب «ماكبث» لزوجته ويعطيها الخنجر، فتلتقيه لاحقا بالكنيسة لغسل أيديهما الملوثة بالدماء، وكان بالماء «سحر» قادر على غسل ذنبهما الكبير.. ثم يقدم «ماكبث» على ذبح الخدم الثلاثة النائمين حتى لا ينكشف أمره، ويصيح بتبجح: «أنا ملك اسكتلندا».
ولكن تداعيات مقتل الملك تستولي على ذهنه وأفعاله لاحقا، فيعود يشكو من عبثية «قتل الملك دونكان» لأن الملك سيذهب لبانكو وابنه حسب النبؤة.. هكذا يدعو«بانكو وابنه الصبي» لحفل العشاء الفخم المقرر لتنصيبه ملكا، فيعده بانكو بالحضور بعد أن يقوم بجولة هامة مع ابنه الصبي، فيرسل مجموعة فرسان ثلاثة لاغتيالهما، فينجحون ويقطعون رأسه، ولكن ابنه الصبي يهرب للغابة ناجيا بنفسه، وتعلمه المجموعة بالاغتيال ونبأ هروب الابن.. فنراه بلقطات معبرة يرى «مهلوسا» بانكو وكأنه موجود برفقة ضيوف الحفل الكبير، ونراه يذهب متحدثا «للشبح» الذي لا يراه احد سواه، وتحاول الليدي ماكبث تهدئة الجمع المذهولين بحجة «أن زوجها ليس على ما يرام»، ولكن ماكبث يستمر بهذيانه، مما يستدعي مغادرة «ماكدوف» القاتل وزوجته للحفل بالرغم من اصرار الملك على بقاءهما، ويتوتر الجو فتأمر«الليدي ماكبث» جميع الضيوف بالمغادرة، وتأخذ ماكبث لغرفتها محاولة تهدئته من مخاوفه وهلوساته، ثم يهرب خلسة للغابة ليلا ليتحدث ويستشير ساحرات الغابة الثلاث (مع ابنتهم)، لكنهن لا ينجحن بتهدئة مخاوفه المستفحلة.. ثم يعطي الأوامر الصارمة لعصابته بأسر عائلة ماكدوف واطفاله وخدمه، ويقوم بحرقهم بعد تعليقهم على نواصي خشبية امام جمع من مؤيديه.. فيشتعل الحقد بقلب ماكدوف بعد علمه بالمذبحة متوعدا بانتقام شديد، ويتعاون مع ابن الملك الهارب لتشكيل جيش مكون من عشرة آلاف مقاتل لغزو اسكتلندا..
تعود الليدي ماكبث لقريتها، خائبة ومتروكة وحزينة، ثم تتجه للكنيسة للاعتراف بخطاياها ومشاركتها بالجريمة، وترى شبح ابنها الميت، وتذهب عبر الغابة لترى الساحرات الثلاث، وتسري اشاعة في القلعة بأن ماكبث قد جن مما يفسر سلوكياته المتسلطة وغضبه الهيستيري الشديد، ثم يخبر بأن زوجته قد ماتت، فيحمل جثتها ويسير بلا هدى محاولا احتضانها «واقفة» في لقطة «تراجيدية» معبرة.. ويخبره الحرس بأن مالكولم يقود جيشا ضده، كما يحرق «ماكدون» غابة بيرنام، وبينما تتجه «الأدخنة والرماد» باتجاه القلعة الملكية، وتتحقق النبؤة، يغادر «ماكبث» القلعة لمواجهة جحافل الجيش المهاجم، ويدخل في نزال مع «ماكدوف»، واثقا من انتصاره الكاسح عملا بالنبؤة التي تقول «أن لا رجل مولود من امراة سيستطيع قتله»، ولكن «ماكدوف» يفاجئه بالقول بأنه قد «انتزع من رحم امه قبل ولادته»، ويستغل اندهاش وتشتت ماكبث ليطعنه باحشائه طعنة قاتلة، ولكن ماكبث كعادته يرفض الاعتراف بالهزيمة والموت سريع، ويعيد ماكدوف الكرة فيطعنه عدة طعنات قاتلة، ليموت «ماكبث» واقفا في ساحة المعركة، ليصبح مالكولم ملكا شرعيا لاسكتلندا.. ونرى الساحرات الثلاث وقد شهدن المعركة الفاصلة ومقتل ماكبث وهن يغادرن والحيرة تملأ وجوههن ليختفين عبر الضباب.. وفي المشهد الأخير المعبر، نرى «مالكولم» وهو يغادر قاعة العرش بينما يقوم «ابن بانكو» الصبي الشجاع بأخذ سيف «ماكبث» مغادرا مسرح المعركة ومختفيا عبر الدخان..
جماليات الفيلم
يحفل هذا الفيلم الرائع بالاقتباسات «الشكسبيرية» البليغة والمعبرة والتي تصدر بمعظمها عن ماكبث كما عن الشخصيات الاخرى كزوجته والساحرات وخصومه، وفي الفيلم أيضا بهاء الصورة والتشكيلات المسرحية التي تثري دلالات المضمون والصورة. وهنا لا بد ان نتوقف امام الاداء العالي المستوى لكل الابطال، وفي الفيلم كذلك مدير تصوير فذ وهو «ادم اركاباو» الذي صاغ لغة جمالية في رسم المشاهد وحركة الكاميرا وايضا كم من الدلالات اللونية التي تمنح التفاسير دلالاتها وعمقها. وهكذا الامر مع الديكورات التي ابدعها «كريس دكينز».
ولكن يبقى ما هو اهم اننا امام مخرج «جوستين كورزيل»، وهو في حقيقة الامر ابن المسرح ولهذا حينما ذهب الى السينما ذهب وهو يعتمد على ارث مسرحي عامر بالقيم ويشتغل على موضوع يظل حاضرا في كل الأوقات، حيث الحروب والدمار وآثار كل ذلك على الذات الانسانية في مزيد من التسلط والطمع في السلطة. فقدم سينما بايقاع المسرح وحلوله وايضا ثراء موضوعاته، فذهب بابداع وليم شكسبير الى فضاءات ابعد من حدود أي قراءة لهذا الفيلم.
«ماكبث» هو بالفعل أحد الأفلام القوية التي عرضت في عام 2015. وأعطته غالبية مواقع تقويم الأفلام (مثل Rotten Tomatoes وFilm Review) ما يزيد على 70 في المئة لناحية القوة والجمالية، مع العلم بأنّ جماليته قاسية بعض الشيء، وليست لجميع المشاهدين، بل للـ «ذوّاقة» الذين يميلون إلى التحف السينمائية.