الكلاسيكية في تكنيك صناعة الفيلم التسجيلي لا تعني الضعف
«سينماتوغراف»: أحمد شوقي ـ تونس
للفيلم التسجيلي وظائف وأدوار كثيرة يمكن أن يلعبها، اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، وجماليا قبل كل شيء بالطبع. ومن بين هذه الأدوار المهمة وظيفة كسر التابوهات، وإعادة فتح الأمور التي توافقت الأغلبية لسبب ما على كونها أمور مسلم بها غير مطروحة للنقاش.
من بين الأفلام التي تقوم بهذا الدور بوضوح الفيلم التسجيلي الجنوب أفريقي “مانديلا.. الأسطورة وأنا” للمخرج خالو ماتابان، والمعروض ضمن مسابقة الأفلام التسجيلية في أيام قرطاج السينمائية الخامسة والعشرين، والذي يفتح بذكاء وجرأة ملف زعيم أفريقيا الأشهر نيلسون مانديلا، وعلاقة بني وطنه به بعد عشرين عاما من إنهاء سياسة الفصل العنصري (أبارتايد).
مانديلا، الرجل الذي تحول وجهه وصوته وكلماته إلى أيقونات لقيمة الحرية، يتم تداولها بتقدير يصل لدرجة التقديس، مع الكثير من كونها سلعة أيضا تروج وتوضع على (قمصان وشارات وحقائب ودفاتر تحمل صورة مانديلا وأقواله)، هو محل اهتمام الفيلم ومخرجه، الذي كان صبيا عندما خرج الرجل من السجن بعض قضاء 27 عاما وراء القضبان، ليشهد خالو ماتابان رحلة صعوده لمقعد الرئاسة وإقراره لسياسة المصالحة الوطنية التي يتناولها الفيلم بالدراسة من أكثر من زاوية.
كلاسيكية ثرية ومفارقة مواقف
على الصعيد الشكلي ينتمي “مانديلا.. الأسطورة وأنا” إلى المدرسة الكلاسيكية في الفيلم التسجيلي قلبا وقالبا، فهو يعتمد على الأنواع الثلاثة المتعارف عليها للمواد التسجيلية: الشهادات الشخصية، اللقطات الأرشيفية، واللقطات المصورة خصيصا للفيلم، مع ربط كل هذا بتعليق صوتي يؤديه المخرج بنفسه (ويتحدث فيه بصيغة شخصية حول علاقته بمانديلا وبحثه عن الحقيقة وراء أسطورته).
المخرج لا يقوم إذن بأي تجربة مغايرة على صعيد تكنيك صناعة الفيلم التسجيلي، لكنه يستعيض عن هذا بقيمة الموضوع أولا، وثراء الاختيارات ثانيا، سواء اختيارات المواد الأرشيفية التي تروي قصة مانديلا من البداية، ومن ضمنها أول لقاء تلفزيوني أجري معه في الستينيات وقت أن كان في ريعان الشباب، أو في اختيارات الشخصيات التي تقدم شهادات حول مانديلا، والتي تبلغ مستوى الدلاي لاما ووزيري الدفاع والخارجية الأمريكيين السابقين كولن باول وهنري كسينجر.
الطريف في الأمر أن باول وكسينجر واللذان يفترض أن يكونا مختلفان أيديولوجيا مع مانديلا، بل يمثلان الشكل المعاصر من الإمبريالية التي يعتبر الرجل رمزا للنضال ضدها، كانا أكثر ضيوف الفيلم إشادة بمانديلا وتضخيما لصورته كرمز للحرية والنضال (لا دهشة من امتلاك الدلاي لاما لنفس الموقف ولكن في حالة الإدارة الأمريكية الأمر يختلف).
وفي المقابل وعلى غير المتوقع، تأتي غالبية الشهادات التي أدلى بها أبناء جنوب أفريقيا السود في الفيلم، وبينهم مفكرين وكتاب ومنظرين سياسيين، على النقيض تماما من تصريحات الغربيين، مليئة بالتشكك في أسطورة مانديلا، والانتقاد للكثير من أفعاله وعلى رأسها سياسة المصالحة الوطنية، وحتى من يؤمن بالزعيم وينتمي له، يقوم بذلك باعتبار الرجل يرمز لنضال شعب بأكمله، وليس لقيمة أو قدرة يمتلكها بشكل منفرد.
استنتاج سياسي وتاريخي
في التناقض الطريق وغير المتوقع (أو ربما متوقع للبعض)، يكمن الطرح الذي يخرج به فيلم خالو ماتابان عن أسطورة نيلسون مانديلا، والذي يراه الفيلم مناضلا كافح من أجل وطنه بالفعل، لكنه في نفس الوقت تم اختياره “وتعميده” من قبل الغرب ليكون رمزا استهلاكيا للحرية، في وقت كان انتهاء الفصل العنصري فيه أمرا مفروغا منه سيحدث في جنوب أفريقيا رغم أنوف الجميع الآن أو لاحقا، ولعل المفارقة هي أن الحفل الضخم الذي يروي أحد الضيوف أنه حضره فخرج مدافعا عن مانديلا وقضية جنوب أفريقيا، لم يقام في القارة السمراء، بل كان حفلا حضره الآلاف في ملعب ويمبلي بالعاصمة البريطانية لندن، التي كانت طويلا مصدرا لدعم الأبارتايد وقمع مانديلا وبني وطنه.
الفيلم يقول أن مانديلا تم تصعيد اسمه في هذا الوقت بصورة غير مسبوقة، وتحويله لمعادل موضوعي لنضال شعبه، وتحويله لنجم حقيقي يلتقط الصور مع مشاهير العالم والأطفال الفقراء كأي ممثلة هوليودية (الأمر الذي أثار شكوك المخرج الفلسطيني إيليا سليمان كما يقول في الفيلم)، حتى يصبح انتخابه كأول رئيس أسود لجنوب أفريقيا أمرا بديهيا، ليمرر بعدها سياسة المصالحة الوطنية التي يقوم الجزء الأخير من الفيلم بمحاسبتها بقسوة واضحة.
عن المصالحة وتوابعها
المخرج يدين سياسة المصالحة بوضوح، ويجمع شهادات ضحايا يرون أن مانديلا قد خانهم، وأنه ترك من نكلوا بهم لعقود يخرجون من كل أفعالهم بلا عقاب بدعوى أن هذه هي الصورة الأمثل لوقف نزيف الدماء، فيقول أحدهم “عندما يسرق مني أحد ساعتي ويرتديها، ثم يقال لي أننا قد تصالحنا ولم يعد بيننا عداء، لا يمكن أن تتم هذه المصالحة وأنا لا أزال أرى الساعة في يده”.
الأمر يدعمه لقطة أرشيفية شهيرة، للرئيس الجنوب أفريقي الأبيض بيتر فيليم بوثا، وهو يرفض الاعتراف بارتكاب أي جرائم أو الاعتذار عن ممارساته وقت حكمه وتطبيقه لسياسة الفصل العنصري، بل وهجومه العدائي على من ضحكوا خلال حديثه الواثق عن خلو سجله من الجرائم. اللقطة التي يتبعها تعليق حزين من رجل أسود يقول أنه من المؤلم أن تقف الضحية تتسول من المجرم أن يعتذر عما فعله، وأن كل هذا سببه إطلاق مصالحة عامة لم يسبقها على الأقل اعتراف من ارتكب جريمة بفعلته.
في هذا الملف يمكن اعتبار الفيلم يأخذ موقفا متطرفا يصعب القطع بصحته، فهو في النهاية رأي وتجربة تدعمها تجارب مضادة لم يسفر فيها القصاص والتنكيل بالحكام السابقين عن أي شعور أهلي بالرضا والعدالة، بل أن بعض هذه الدول يضرب المثل بتجربة جنوب أفريقيا نفسها كنموذج كان لابد من تطبيقه.
لكن الأهم من موضوع المصالحة هو صورة نيلسون مانديلا وأسطورته، موضوع الفيلم الرئيسي الذي طرحه المخرج بذكاء وإتقان وباستخدام لقطات ثرية وشهادات تستحق الاهتمام. صحيح أن النتيجة قد لا تبدو مرضية لمحبي تقديس الزعماء والرموز، ولكنها نتيجة مهمة يجب مناقشتها، لا سيما وأن الشهادات الأخيرة في الفيلم هي لثلاثة من المراهقين الذين لم يعيشوا فترة صعود الزعيم مانديلا، والذي يرددون ما تقوله الشخصيات الغربية في الفيلم حرفيا، وكأن المسلمات ستنتقل من جيل لآخر، لتستمر أرض أفريقيا الجنوبية تحت رحمة نوع آخر من الإمبريالية.