*** أسامة عسل
تغيرت أسماء الأفلام ونوعياتها بفعل الزمن وبدأت الرومانسية تختفي لتحل مكانها أعمال غريبة باردة بلا مشاعر، تعتمد على الخدع وتكنولوجيا الصوت والصورة حتى أصبحت الأفلام الرومانسية عملة نادرة، والسؤال الذي يطرح نفسه، هل إيقاع العصر ومشكلاته أدى إلى انسحاب تلك الأفلام؟، أم أن ماهية الرومانسية الحالية جعلت قصص الحب موجودة فقط فيما يمكن أن نطلق عليه الكلاسيكيات المأخوذة من روايات الحب القديمة، وأصبحنا مع الوقت نشتاق كل فترة إلى عمل يوقظ مشاعرنا، ويجعلنا نتمنى إعادة الأفلام العاطفية إلى صدارة المشهد السينمائي.
على هذا المنوال ومن رحم القصص الأدبية، جاء الفيلم الأندونيسي «مجنون ليلى» إنتاج عام 2021، مدة عرضه على الشاشة ساعة و59 دقيقة، قدمته شبكة «نتفليكس»، قصة وإخراج مونتي تيوا، سيناريو أليم سوديو، وبطولة آشا سيبتريسا ورضا رهديان وبيم وونغ.
يعتمد إطار هذا العمل على رواية «مجنون ليلى» المعروفة في تراثنا ووجداننا وثقافتنا العربية، بمعناها الرمزي، في تجسيد الحب العذري، من خلال قصة قيس بن الملوح المجنون بحب ليلى العامرية، وهي حكاية طويلة لكنها شيقة وحزينه في فصولها، ومبكيه مع نهايتها، حيث ﻗﻀﻰ الألم والوجد على قيس، ومات على الرمال صريع حبه وهيامه، وهذه القصة انفتحت باتجاه دلالات تفوق حقيقتها الأساسية رغم كونها ذات تاريخ واقعي.
الوارد في أصل القصة وفق منظور ما حدث، أن قيس بن الملوح عاش في العصر الأموي، وانتهت حياته بشكل مأساوي، حيث تزوجت ليلى من رجل يدعى ورد بن محمد العقيلي، وكان ذلك غصباً عنها لستر أمر هذا الحب، ما عقّد أمر قيس، ومن يومها بات هائماً في البراري ليس له من عزاء إلا التغني بحب ليلى، إلى أن وجد ميتاً بين جبال التوباد حيث كانت مرعى الهائمين مثله من عشاق البوادي.
أثرت قصة قيس وليلى وأشعارهما وما نسب إليهما من أخبار وأشعار في الأدب العربي تأثيراً كبيراً، وامتد تأثيرها إلى الأدب الفارسي، كما أثرت في الآداب العالمية الأخرى، فقد نظم الشاعر الفرنسي لويس أرغون «مجنون إلسا» على غرار مجنون ليلى، وكان المستشرق الفرنسي أندريه مايكل شغوفاً كذلك بقصة قيس وليلى، وألف كتابه «مجنون ليلى وتريستان»، ولعل قصة «مجنون ليلى» هي من أبرز ما تناوله أدباء الغرب من أدب العرب.
وفي النسخة الأندونيسية، تدور أحداث الفيلم حول ليلى «ابنة لاعب دمى شهير»، سمى ابنته ليلى استناداً لقصة «مجنون ليلى» التي كان يقرؤها لابنته عند نومها وورثها لها، يتوفى على حين غرة تاركاً ليلى يتيمة في سن صغيرة، تكبر لتصبح أستاذة واعدة وروائية شهيرة، حلمها أن تلقي محاضرات أدبية في دولة أذربيجان، وبسبب زواج مدبر من أحد أبناء القرية المرموقين، تعقد وعداً بالزواج بعد علمها أن سفارة إندونيسيا بأذربيجان أرسلت لها برقية لإلقاء محاضراتها، تعد ذلك الشخص بأنها ستعود بعد الإنتهاء للزواج، رغم عدم اقتناعها بل مجرد دين وعليها أن تفي به لوالد من طلب يدها..
تذهب لأذبيجان وتلتقي بسمير المسلم المعجب بأعمالها والمتحدث البارع بالإندونيسية، تنجرف مشاعرها، وتعرف أنها تحبه، وتقع في حيرة بين وعد بالزواج، وحب حقيقي قد لا يحدث في حياتها مجدداً، وفي لحظة ارتباك تعود إلى وطنها تاركة سمير يعاني الألم، ويهيم على وجهه صريع حبه وهيامه، لكن تختلف النهاية في هذا العمل عن القصة الأصلية لمجنون ليلي.
يمكن حقيقة الاستمتاع بفيلم «مجنون ليلى» ولكن يتطلب ذلك مستوى عالٍ من الصبر، حيث يتم التعرف على الشخصيات ببطء، ورغم هدوء ليلى المناسب لطبيعتها كروائية، إلا أن مشاعرها تجاه سمير تتأرجح بثقل شديد بين الشك واليقين طوال الجزء الأول، الذي ركز على الحبيب وصفاته فهو ذكي رومانسي يجيد التعبير عن نفسه ومشاعره، حاسم في حبه وقرارته تجاهها.
وما يجعلنا نتوقف أمام هذا الفيلم، سلاسة حواره في انتقاء مفردات شعريه تهز قلوبنا، وما نشاهده من خلفيات أذربيجانية وأندونيسية نادراً ما نراها، مع غوص في العادات والتقاليد، وطريقة الاحتفاء بالأعراس والمناسبات الخاصة المصحوب بأزياء وتراث غنائي واستعراضي، وكذلك السلوك الشخصي الراقي للأفراد داخل البيوت وفي الشوارع.
لكن أكثر ما سيروق المشاهد العربي، هو تمسك الممثلين بالدين، وكيف لعب الفيلم دوراً في ترسيخ ذلك، رغم انجراف كل من سمير وليلى بالحب، إلا أن الخلفية الدينية كانت لها تأثيراً في تحصنهما، ليبقى حباً عذرياً، والتزمت بطلته بالحجاب من أول مشهد إلى آخر لقطة، خاصة عند تجولها مع حبيبها في معالم إسلامية، ورغم تخوف البعض من أن الشركة المنتجة «نتفليكس» قد تقحم أفكاراً تفسد العمل، إلا أن صناعه حافظوا على قصة سردية جميلة يمكن مشاهدتها مع العائلة، وليس به ما يحرج أو يجرح، وهي فرصه حقيقية للتعرف على الثقافة الأذربيجانية والأندونيسية معاَ.
وستجعل أحداث الجزء الثاني من الفيلم، المشاهد مشدوداً إلى معرفة ما ستختاره ليلى فعلاً، خاصة أن قطع وعد ما، لا يستهان به أبداً، فهل ستحكم الأخلاق وتختار الوعد، أم ستفضل أن تٌرضي شعورها وشعور من يحبها، وتختار سعادتها وحبها الحقيقي؟!.
نجح الفيلم في كل فصوله، إلى جعل من يتابعه في حالة من التوتر والقلق والحيرة، لا يتم حسمها إلا مع مشهد النهاية، خصوصاً مع قرار «ليلى» الحرة والمتحررة والتي تتحمل مسؤولية اختياراتها، وما يحمله دورها من رمزية ورسالة مباشرة للمتلقي، كما عرفنا صناع هذا العمل على السينما الأندونيسيه التي لا تزال في بداياتها، وأتاحت ظهور أعمال منتجين وصناع سينما شباب، يطرحون قضايا فكرية ذات مغزى فلسفي مع خلفية دينية وثقافية لمجتمعاتهم.
قد نرى أن الأفلام الأندونيسية هي الآن بالفعل سينما مجهولة لا نعرفها، لكنها مستقبلاً مع هذه النوعية من الأعمال التي تبقى في الذاكرة والوجدان، قد تدفع إلى حركة انتعاش فنية واقتصادية تولد اهتماماً عالمياً تجاهها.