محمود المليجي.. من ينافس «أبو سويلم»؟

«سينماتوغراف» ـ محمود درويش

في تاريخ السينما المصرية ممثلون كثر لم يبزغ نجمهم إلا بعد أن تخطوا سن الشباب وبعضهم، من كان قد تخطاها بسنوات طوال. ومن بين هؤلاء حسين رياض، عماد حمدي، وأيضاً محمود المليجي. والأخير الذي تحل ذكرى رحيله في مثل هذا اليوم  6 يونيو 1983، أجاد التمثيل لدرجة أذهلت كثيراً من المخرجين، وعلى رأسهم يوسف شاهين الذي أعطاه دور عمره في فيلم «الأرض» محمد أبو سويلم، وقد كانت هذه الإجادة وراء إطلاق اسم «أنتوني كوين الشرق»، وايضا «مارلون براندو الشرق»، وكلاهما له ما له في عالم السينما العالمية.

فلا يمكن لدور «عزمي باشا» الذي قدمه في فيلم «شروق وغروب» سيناريو رأفت الميهي وإخراج كمال الشيخ (1970) أن ينساه أحد، وتنوعه فيه من العلا إلى الانكسار والهزيمة بأسلوب يدرس لطلاب التمثيل.

وحتى حين تصدى للعمل الكوميدي، جاءت مساهمته مؤثرة فكانت مسرحية «انتهى الدرس يا غبي» مع محمد صبحي (1975).

وللمليجي تجربة واحدة لم تنجح في السينما العالمية. عندما أرادت السينما العالمية أن تصنع فيلما يتحدث عن عادات وتقاليد العرب، استعانت بعدد من الفنانيين المصريين، وكان منهم عباس فارس ومحمود المليجى وحسن البارودى، فى الفيلم الأمريكى «Egypt by three» عام 1953، وشاركهم البطولة جوزيف كوتن، وجاكى كرافن من إخراج فيكتور استلوف. ودارت قصة الفيلم في مصر، وتحدثت عن ثلاث قصص من عادات وتقاليد الصحراء المصرية.

البداية من المغربلين

ولد بحي المغربلين بالقاهرة في 22 ديسمبر عام 1910. تميز بأدوار الشر التي أجادها بشكل بارع، وخاصة في أدوار رئيس العصابة الخفي، كما لعب أدوار الطبيب النفسي، ومثل أدوارا أمام عظماء السينما المصرية رجالا ونساء.

انضم محمود المليجي في بداية عقد الثلاثينيات من القرن الماضي، وكان مغمورا في ذلك الوقت، إلى فرقة الفنانة فاطمة رشدي، وبدأ حياته مع التمثيل من خلالها، حيث كان يؤدي الأدوار الصغيرة، مثل أدوار الخادم على سبيل المثال، وكان يتقاضى منها مرتبا قدره 4 جنيهات شهريا .

ولاقتناع الفنانة فاطمة رشدي بموهبته المتميزة رشحته لبطولة فيلم سينمائي اسمه (الزواج) بعد أن انتقل من الأدوار الصغيرة في مسرحيات الفرقة إلى أدوار الفتى الأول، إلا أن فشل الفيلم جعله يترك الفرقة وينضم إلى فرقة رمسيس الشهيرة، حيث عمل فيها ابتداء في وظيفة ملقن براتب شهري قدره 9 جنيهات مصرية.

مثل المليجي  318 فيلما، ورحل عن الدنيا وهو في سن الثالثة والسبعين، وكان ذلك في السادس من شهر يونيو عام 1983، عن عمر بلغ 72 عاما، إثر أزمة قلبية حادة بعد رحـلة عطاء مـع الفن إسـتمرت أكـثر من نصف قـرن، قدم خلالها أكثر من سبعمائة وخمسين عملاً فنياً، ما بين سينما ومسرح وتليفزيون وإذاعة. وكما يموت المحارب في ميدان المعركة، مات محمود المليجي في مكان التصوير وهو يستعد لتصوير آخر لقطات دوره في الفيـلم التليفزيوني «أيـــوب». ففجـأة، وأثناء تناوله القهوة مع صديقه “عمر الشريف”، سقط المليجي وسط دهشة الجميع.

“أنتوني كوين الشرق”

أطلق عليه الفنانون العرب لقب «أنتوني كوين الشرق»، وذلك أن شاهدوه يؤدي نفس الدور الذي أداه أنتوني كوين في النسخة الأجنبية من فيلم القادسية بنفس الاتقان بل وأفضل.. وأيضا أداؤه في فيلم الأرض فقد أدى فيه أعظم أدواره على الإطلاق. فلا يمكن لأحد أن ينسى ذلك المشهد الختامي العظيم، لـ«محمد أبوسويلم» وهو مكبـَل بالحـبال والخـيل تجـره على الأرض وهو يحاول التـشـبث بجذورها. ولم تكن روعة المليجي في فيلم الأرض تكمن في الأداء فقـط، بل في أنه كـان يؤدي دوراً معبراً عن حقيقته، خصـوصاً عندما رفض تنفـيذ هذا المـشـهد باسـتخدام «دوبلير»، وأصـر على تنفـيذه بنفسه.. لم يكن ـ قط ـ مجرد ممثل، بل كـان فناناً.. عـاش ليقدم دروساً في الحياة من خلال فنه العظيم. وكانت معظم أدواره، حتى أدوار الشر، تهدف إلى مزيد من الحب والخير والاخـلاص للناس والـوطن.. كـان مدرسـة فنـية في حـد ذاته.. وكان بحق أستاذاً في فن التمثيل العـفوي الطبـيعي، البعـيد ـ كل البـعد ـ عن أي إنفـعال أو تشـنج أو عصبـية.. كـان يقـنع المتــفرج انـه لا يمـثل، ومـن ثـم إكتـسـب حـب الجماهير وثقتهم.

ولــد «محمود المليـجي» في الثـاني والعـشرين من ديسمبر عـام 1910، في حيّ المغربلين، أحد أقدم أحياء القاهرة الشعبية وأشهرها.. ونـشأ في بيـئة شعبـية حتى بعـد أن إنـتقل مـع عائلـته الـى حـي الحلـمية، وبعـد أن حصل على الشـهادة الإبـتدائـية إخــتار المدرسة الخديوية ليكمل فيها تعليمه الثانوي. وكان حبه لفن التمثيل وراء هذا الاختيار حيث أن الخـديوية مدرسـة كـانت تشـجع التمـثيل، فمـدير المدرسة «لبيب الكرواني» كان يشجع الهوايات وفي مقدمتها التمثيل، فالتحق المليجي بفريق التمثيل بالمدرسة، حيث أتيحت له الفرصة للتتلمذ على أيدي كبار الفنانين، أمثال : أحمـد عـلام، جـورج أبيض، فتوح نشاطي، عزيز عيد، والذين استعان بهم مدير المدرسة ليدربوا الفريق.

لقاؤه مع عزيز عيد

يتحدث المليـجي عن أيـام التمـثيل بالمـدرسة، فيقول: في السنة الرابعة جاء عزيز عيـد ليدربنا، جذبتني شخصيته الفذة وروعة إخراجه وتطور أفكاره، وكنت أقـف بجانبه كالطفل الذي يحب دائماً أن يقلد أباه.. وقد أُعجب بي عزيز عيد وأنا أمثل، ومـع ذلك لم يعطنِي دوراً أمثله، وكـان يقول لي دائمـاً.. (إنت مش ممثل.. روح دور على شـغلـة ثانية غير التمثيل).. وفي كـل مـرة يقول لي فيـها هذه العبـارة كنـت أُحـس وكأن خنجراً غـرس في صـدري، وكثـيراً ما كنت أتـوارى خلف شجـرة عجـوز بفـناء المـدرسة وأترك لعيني عنان الـدموع، إلى أن جـاء لي ذات يـوم صـديق قـال لي إن عزيز عـيد يحـترمـك ويتنبأ لك بمستقبل مرموق في التمثيل، فصرخت فيه مَنْ قال لك ذلك ؟ أجاب إنه عزيز عيد نفسه.. وعرفت فيما بعد أن هذا الفنـان الكبـير كان يقول لي هـذه الكلـمات من فمه فقط وليس من قلبه، وإنه تعمـد أن يقولـها حتى لا يصيبني الغرور، وكان درساً لاينسى من العملاق عزيز عيد.

وفي إحـدى عـروض فرقـة المـدرسـة المـسرحية، كـان من بين الحاضرين الفنانة «فاطمة رشدي»، والتي أرسلت تهنيء المليجي ـ بعد انتهاءالعرض ـ على أدائه الجيد لدور «ميكلوبين» في مسرحية «الذهب»، ودعته لزيارتها في مسرحها حيث عرضت عليه العـمل في فرقتها بمرتب قدره أربعة جنيهات شهرياً. عنـدها تـرك المليـجي المـدرسـة لأنـه لــم يستطع التوفيق بينها وبين عمله في المسرح الذي كان يسيطر على كل وجدانه، فقدم مع «فاطمة رشدي» مسرحية (667 زيتون) الكوميـديـة.. كمـا مثل دور “زياد” في مسرحية (مجنون ليلى).

الظهور الأول في السينما

كان أول ظهور له في السينما في فيلم (الزواج ـ 1932) الذي أنتجته وأخرجته فاطمة رشدي، وقام هو بدور الفتى الأول أمامها. وبعـــد أن حلَت فرقة فاطمة رشدي، عمل المليجي كملقن في فرقة “يوسف وهبي” المسرحية، ثم إختاره المخرج «إبراهيم لاما» لأداء دور «ورد» غريم «قيس» في فيلم سيـنمائي من إخـراجـه في عام 1939.. كما أنه وقف، في عام 1936، أمام “أم كلثوم” في فيلمها الأول (وداد).. إلا أن دوره في فيلم (قيس وليلى) هو بداية أدوار الشر له، والتي استمرت في السينما قـرابة الثـلاثين عاماً، حـيث قـدم مـع “فـريـد شـوقـي” ثنائياً فنياً ناجحاً، كانت حصيلته أربعمائة فيلم.

وكانت نقطة التحول في حياة “مـحـمـود المـليجي” في عـام 1970، وذلك عندما إختاره المخرج «يوسف شاهين» للقيام بدور «محمد أبوسويلم» في فيلم «الأرض».. فقد عمل فيما بعد في جميع أفلام يوسف شاهين، وهي: الاختيار، العصفور، عودة الابن الضال، إسكندرية ليه، حدوته مصرية.

وقد تحدث يوسف شاهين عن المليجي، فقال:. «كان محمود المليجي أبرع من يـؤدي دوره بتلقائية لـم أجـدها لدى أي ممثل آخر، كمـا أنني شـخصـياً أخـاف من نظـرات عينيه أمام الكاميرا».

وقد ترك المليجي بصماته في المسرح أيضاً منذ أن اشتغل مع «فاطمة رشدي»، حيث التحق فيما بعد بفرقة «إسماعيل ياسين»، وبعدها عمل مع فرقة «تحيـة كـاريـوكـا»، ثـم فـرقـة المـسرح الجـديـد.. وبـذلـك قـدم أكـثر من عـشرين مـسرحية، أهـمـها أدواره في مسرحيات: يوليوس قيصر، حـدث ذات يوم، الـولادة، ودور «أبو الـذهب» في مـسرحية أحمد شوقي “علي بك الكبير”.

ودخل محمود المليجي مجال الإنتاج الـسـينمائي مساهـمة منه في رفـع مـستوى الانتـاج الفني، ومحـاربة مـوجة الافـلام الـساذجة، فـقدم مجموعة من الأفلام، منها على سبيل المثال: الملاك الأبيض، الأم القاتلة، سوق الـسلاح، المقامر.. وبذلك قدم الكثير من الوجوه الجديدة للسينما، فهو أول من قدم فريد شـوقي، تحية كاريوكا، محسن سرحان، حسن يوسف، وغيرهم. ومثل محمود المليجي مختلف الأدوار، وتقمص أكثر من شخصية: الـلص، المجرم، القوي، العاشق، رجل المباحـث، البوليس، الباشـا، الكهـل، الفـلاح، الطبيب، المحامي.. كما أدى أيضاً أدواراً كوميدية.

وكـان عضواً بـارزاً في الـرابطة القـومية للتمثـيل، ثـم عضواً بالفرقة القومية للتمثيل. لقد كان محمودالمليجي فناناً صادقاً مع نفسه..

المليجي إنساناً

تزوج المليجي من رفيقة عمره الفنانة «علوية جميل» سنة 1939 وبقى مخلصاً لها على مدى أربعة وأربعـين عامـاً حتى وفــاته. وقد اشتهرت علوية جميل في السينما المصرية بدور الحماة القاسية لاسيما في فيلم التلميذة التي وقفت حائلا أمام زواج ابنها من الفتاة الفقيرة التي ارتبط بها عاطفياً. وشاركت في العديد من الأعمال المسرحية والسينمائية وخلفت وراءها أعمالا لازالت تشكل علامات في مسيرة السينما المصرية.

علوية جميل ولدت في يوم 15 ديسمبر عام 1908 وجاءت إلى مصر من لبنان وانضمت إلى فرقة رمسيس نجيب مع يوسف وهبي وظلت فى الفرقة سنوات طويلة إلى أن انضمت إلى الفرقة القومية.

كما تزوج المليجي سرا لفترة في حياته من الممثلة سناء يونس التي حرصت على عدم الافصاح كثيرا عن هذا الزواج احتراما لعلوية جميل.

من أشهر مسرحياتها توسكا، الطلاق، الكونت دى مونت كريستو، الوطن، راسبوتين، النائب المحترم، دم ملوث بالإضافة إلى عدد من الأفلام.

وقد اعتزلت الفن عام 1967 وتوفيت في يوم 11 يونيو عام 1994.

كـان المليجي إنساناً مع زملائه الفنانين، وأباً روحياً لهم، ورمزاً للعـطاء والبـذل والصمود أمام كـل تيـارات الفن الرخيص – بالرغم من أنه اضطر للعمل في اعمال تجارية في السبعينيات مثل «ألو انا القطة»- إلا أنه يعد رمزاً لفنان احترم نفسه فاحترمه جمهوره. نال «مارلون براندو الشرق» خلال مشواره الفني العديد من الجوائز والأوسمة حيث حصل على وسام العلوم والفنون عام 1964، ووسام الأرز من لبنان عن مجمل اعماله الفنية فى نفس العام، وفي عام 1972م حصل على الجائزة الأولى عن دوره فى فيلم “الارض”

Exit mobile version