حاورته: هبة ياسين
تدور أحداث الفيلم المصري “أبو صدام” المشارك في المسابقة الدولية بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي على مدار ست وتسعين دقيقة، حول سائق شاحنة نقل ثقيلة خبرته طويلة، ويحصل على مهمة نقل على طريق الساحل الشمالي بمصر بعد انقطاع عن العمل دام سنوات، وبينما يحاول إنجاز مهمته على أكمل وجه يتعرّض لموقف يجعل الأمور تخرج عن سيطرته.
وحول الفيلم ودلالاته وكواليس إنتاجه، كان الحوار التالي مع محمود عزت كاتب السيناريو والحوار، الذي قال: “إن فكرة الفيلم تعود للمخرجة نادين خان “وقمنا سوياً بتطويرها وكتابة السيناريو والحوار، ورأيت ضرورة أن يتضمّن العمل ثيمة إنسانية نحكي القصة من خلالها”.
ويغوص “أبو صدام” في عالم سائقي شاحنات النقل التي تكاد تكون غائبة عن السينما المصرية بهذا التركيز، وهو ما يعتبر خطوة جريئة وصعبة.
وقال عزت “تطلبت الفكرة بحثاً كبيراً من جانبي، وتواصلت مع أشخاص من سائقي النقل بالفعل، بينما قامت المخرجة نادين خان بالنزول إلى الشارع ولقاء بعض السائقين على طريق الساحل الشمالي والحديث معهم، وفهم عملهم وتصرفاتهم على الطبيعة”.
وعمل السيناريست عزت مع المخرجة خان على تطوير سيناريو الفيلم لأكثر من مرة للوصول إلى المرحلة التي خرج عليها كي يمكن حكاية القصة من منظور فني ويخرج الفيلم بشكل واقعي، خصوصا أن عالم سائقي الشاحنات ثري بالحكايات الإنسانية، حيث يصادفون في طريقهم مواقف كثيرة عندما يرتادون الطرق السريعة، ويقابلون أناساً من كل الفئات، ويرون أنفسهم كأنهم حراس الطريق ومالكوه.
وأضاف عزت، “يشعر هؤلاء أنهم هم الأساس وكل قاطني ومرتادي القرى السياحية الفاخرة في الساحل الشمالي المصري دخلاء أتوا لمجرد الاستمتاع، وأن هذا الطريق والمنطقة ملكية لهم فهم يتواجدون قبل بناء العديد من القرى السياحية”.
وأوضح أنهم يحملون قدراً من الاحتقار لسكان الساحل الشمالي، الدخلاء من وجهة نظرهم، وتستفزّهم الأجيال الجديدة التي لا تحترم الطريق ولا تدرك أهميته، إذ يعتبرونه شريان حياة لهم، كما ينزعجون من فتيات الساحل اللاتي يرتدين ملابس جريئة، وكلها تفاصيل لمسها عزت وخان وسمعاها خلال الحديث مع سائقي الشاحنات.
وذكر أن حياة سائقي الشاحنات تتّسم بالعزلة مثل حياة “أبوصدام”، ولا يتوقّع أن يصلهم الفيلم، لأنهم لا يرتادون السينما ولا وقت لديهم لمشاهدة الأفلام، فحياتهم صعبة للغاية، تقتصر على قيادة السيارة طوال النهار، وقد يذهب السائق إلى منزله للنوم فقط، ثم يُعيد الكرة من جديد لتوفير قوت يومه، وقد حكى بعضهم بعفوية قصصا من حياتهم للمخرجة من دون وعي منهم أن هناك فيلما يحمل قضية تخصّهم.
وفيلم “أبو صدام” بطولة محمد ممدوح وأحمد داش وعدد من ضيوف الشرف من بينهم سيد رجب، علي قاسم، علي الطيب، هديل حسن، وقصة وإخراج خان، وسيناريو وحوار محمود عزت ومن إنتاج شركة “سي سينما”.
وينتمي “أبو صدام” إلى سينما أفلام الطريق، وهو اتجاه كان متعمداً من طاقم الفيلم، ويفسّره عزت بقوله “يجذبني هذا النوع من الأفلام، وإذا قلنا إن القصة كلها هي رحلة البطل، فذلك يمنحنا فرصة لإشراك الجمهور في رحلته خلال التحرّك في المكان، فيشعر معه بالشروق والغروب ما يعطي فرصة لنحكي عن القصة وهي تتبدل، فنجد البطل محمد ممدوح ومساعده أحمد داش في مزاج جيد خلال الصباح وسط أجواء هادئة، حيث يغنيان ويتبادلان النكات والمزاح وقد يسمعان الموسيقى”.
ومع حلول الظلام تتغيّر الأجواء والحالة المزاجية للبطل وتتراجع سيطرته مع حلول الليل وتبدأ نقاط تفتيش الشرطة في الظهور، ويبدأ إدراك وضعه الاجتماعي، لكن مع حلول آخر الليل قد يرتكب جريمة قتل، فالزمن في الفيلم يحمل رمزية كبيرة، ويتعامل معه البطل بوعي كبير، فشخصية “أبو صدام” لا يمكن أن تقدم على فعل جريمة في وضح النهار، لكنه يقتنع تماماً أنه في جنح الليل يتحوّل إلى “ملك الطريق”، ولا أحد غيره يمكنه السيطرة عليه.
ولفت السيناريست المصري إلى أن المُشاهد يدخل في رحلة تشبه رحلة اليوم من شروق ثم نهار ثم بداية الليل ثم عمق الليل بدرجاته، وهذا من شأنه أن يعمّق بداخل الجمهور الإحساس بتغيّر رحلة البطل، وهذا ما تفعله أفلام الطريق، والتي تعدّ مناسبة لهذا النوع من القصص والأفلام التي ترغب أن تحكي من خلالها رحلة نفسية للبطل.
وجاء اختيار محمد ممدوح المعروف بـ”تايسون” تيمنا ببطل الملاكمة الشهير، لهذا الدور ببنيته الضخمة وصوته الجهوري مناسبا لأداء الشخصية الفظة العنيفة المتقلبة، وهو ما يؤكّد عزت عليه بقوله “ينتمي ممدوح لفئة الممثلين الذين يتشكّلون مع الدور، ويذكّرني بالفنان أحمد زكي فهو ليس من نوعية الممثلين الذي نكتب له كل التفاصيل، فقد قام بمقابلة بعض سائقي النقل الثقيل ليكتسب لغتهم وشكلهم وطريقتهم ليكون أبو صدام مثلهم، كما ساهم معنا في التفكير في السيناريو، بينما هناك ممثلون آخرون يطلبون أن تكتب لهم كل التفاصيل الشكليّة دون جهد من جانبهم”.
كان البطل ممدوح والمساعد أحمد، ومعهما الشاحنة، وكان التركيز واضحاً على الشخصيتين، لأن الحكاية تدور حولهما، والبطل الأساسي يظهر كرجل لا يقاوم، وبجانبه مراهق مازال في طور التشكيل، فبدا مغرماً بالهواتف المحمولة والتطبيقات الإلكترونية، وينتمي لجيل شخصيته المشوّشة، حيث لا يعرف ماذا يريد.
وخلق الثنائي حديثاً ومواقف عن ثقافة الذكورة، وكيف يفكّر الرجال لأن ممدوح في الفيلم لا يمثل سائقي النقل الثقيل فقط، بل قطاعاً كبيراً من الرجال، في طريقة تفكيرهم وتعاملهم مع النساء ورؤيتهم لأنفسهم وتعظيم وجودهم على حساب عدم إدراك موقعهم في الحياة، وعنفهم أحياناً تجاه أنفسهم ومن حولهم.
وكشف عزت أن اختيار سائق شاحنة جاء لأنه في المخيلة الشعبية رجل قوي يقود سيارة ضخمة، والسيارة بالنسبة إلى الرجال تمثل هويتهم، يحبونها لأنها أدوات لإظهار فخرهم الذكوري، فما بالنا بشخص يقود شاحنة تشبه ديناصوراً، فتلك رمزيات وضعت في الاعتبار عند الكتابة.
وأضاف “داش يمثل الشباب الصغير المنشغل طوال الوقت بالهاتف المحمول وصورته أمام الجنس اللطيف دون جدية، ويعيش في عالم من السيولة دون إدارك لذاته، وكل ما يشغله هو الترفيه عن نفسه أو خداع من حوله، فيتعرّض لمواقف صعبة تجعله مرتبكاً وخائفاً ليفهم في النهاية أن هناك عالماً قاسياً لن يستطيع مواجهته مهما بدا (فهلويا)”.
هناك رمزية كبيرة تتعلق بزوجة أبو صدام التي لم تظهر نهائياً، وكان يحادثها عبر الهاتف، ودائم التوبيخ لها ممارساً عليها نوعا من القهر، وزوجته ابنة عائلة في منطقة العلمين بشمال مصر، وسكانها معروفون بحرصهم على كرامتهم ووضعها فوق أي اعتبار، وهي عنيدة وصعبة المراس مثل أخيها (كريم قاسم)، وعندما نشاهد شقيقها يمكن تصوّر شكلها وعقلها وفهم أبعاد تركيبتها المشابهة للبيئة الصحراوية التي نشأت فيها.
لذلك تم خلق صورة عنها بأنها شديدة المراس وتتعامل مع زوجها بندية، وهو تزوّجها لأنها تنتمي لعائلة كبيرة على الطريق الذي يعمل فيه، وكانت مطلقة وهو لا ينجب، ومن ثم حاولا التوافق اجتماعيا، لكن زوجته أبت أن تخضع له بشكل كامل، لأنها لا تريده أن يتحكّم فيها.
وأكّد عزت أن رمزية الزوجة هدفها “عندما تهتزّ صورة الرجل في منزله ويفقد قدرته في السيطرة على زوجته، هذا الأمر سيجعله مهتزاً نفسياً، فنراه يدخل في شجار معها ثم مع ضابط نقطة التفتيش الأمنية، وظهر رد فعله العاجز عندما يحاول الاستقواء أمام سلطة أعلى منه فيتعرّض للقهر ونراقب موازين القوى عندما نراه شخصا غير قادر على التفكير في حياته أو التخلص من عقد النقص في شخصيته، ويكتشف أنه شخص عاجز عن فرض وجوده أمام السلطة الرسمية”.
والمقصود أن صورة الإنسان المتضخمة قد تكون وهماً كبيراً يعيش فيه صاحبها، ومن هنا يستفيق أبو صدام على صدمة نفسية تدفعه لصب قهره على من هم أقل منه، مثل الزوجة، هذا الوهم الذاتي يدخل الانسان كابوساً، ولا يعي موقعه أو قيمته في الحياة.
وشدّد عزت على أن هذه واحدة من الرسائل المهمة التي أراد الفيلم تضمينها، ومفادها أنه مهما كانت صورتك عن نفسك لا بد أن تتوقف كل فترة مع الذات وتعرف أين أنت، وما هي قناعاتك الحقيقية؟ لأنه يمكن أن تدهس في أي لحظة من هم أقل منك شأناً وسلطة بالخطأ، مثل الرجل الذي قتل في النهاية بلا ذنب، فهو إنسان تمّ دهسه بسبب الغضب المجتمعي.
وقد يختار القدر ضحايا لا ذنب لهم، ففي لحظة من اللحظات يمكن أن تفقد كل امتيازاتك على الطريق بسبب عصبية سائق شاحنة.
أحد المشاهد المتكرّرة ضمن أحداث الفيلم وجود ذلك الخدش على باب سيارة أبو صدام، والذي يشغله كثيراً ويجعله يتحسّسه بانتظام وتحسّر، فنشعر أنه ليس مجرد خدش من حادث عارض بل كما لو كان خدشا في روحه ونفسه.
وحول دلالات ذلك أوضح عزت، “هذا الخدش رمز لخدش في كرامته، ففي أعراف سائقي الشاحنات الثقيلة، من تخدش سيارته يفقد هيبته، فالسيارة هي فخرهم، وينزعج عندما تخدش، فبالنسبة إليهم هي جزء من ذكورتهم، كما أنها مصدر رزقه، لذا فطوال الوقت كان خدش السيارة خدشا في صورته بينما هو لا يُدرك أن الزمن مرّ وتجاوزه وفقد معه هيبته، فنجده منشغلا للغاية بهذا الخدش، وكي يداوي ويعالج هذا الخدش انتهى به الحال لتدمير سيارته، ومع ذلك تجاهل هذا التدمير وظل اهتمامه منصبا على هذا الخدش الصغير”.
وبدا الخدش مثل حياة أبو صدام المدمرة، فهو لا ينجب وزوجته لا تحترمه، ومنذ سنوات لا يعمل على الطريق، وكل ما يشغله كيف لفتاة ثرية أن تهينه على الطريق ثم تجعل الشرطة تستوقفه، فهو لا يعي حجم غضبه، ولديه مشكلة كبيرة في وعيه لذاته مثل غالبية الرجال.
جاء مشهد النهاية والسيارة الضخمة تسير في مشهد واسع ويتضاءل حجمها تدريجيا وتذوب بين الطرق والسيارات الأخرى حتى لا تكاد تميّزها، فتتحوّل كأنها سيارة تسير بجوارك في الطريق لا تعلم ماذا فعل هذا الرجل؟ لتذهب إلى مشهد أكبر وسط طرق كبيرة للغاية متشعبة جداً في دلالة أن مثل أبو صدام يتواجدون ويعيشون ويذوبون بين الناس ولا نعرفهم أو نشعر بهم.
وقال عزت “خلال حديثنا مع سائقي النقل الثقيل أخبرونا أنه خلال فترة الليل قد يصدم أحدهم شخصاً دون أن يراه، وهم بالطبع لا يعترفون بارتكاب ذلك، لكن يقولون إن ثمة سائقين يفعلون ذلك، ويلقون باللوم على الضحايا بمبرّر أن المارة سكارى أو في عدم وعي أو غير منتبهين للطريق”.
وحول أسباب جعل نهاية الفيلم مفتوحة، قال “هذه هي الحياة إذا انتظرت أن نأتي لك بأبو صدام وهو مسجون فهذا ليس أكيدا، أو نأتي به في مشهد يبدي ندمه فهذا أيضا ليس أكيدا، أو حتى كي يظهر حسن (مساعد أبو صدام) وهو منهار ومصدوم فليس مؤكّدا، إذ لا نعلم كيف سيكون الحال في المستقبل، وقد يتحوّل حسن إلى أبو صدام أو يختار أن يكون شخصا مختلفا”.
وجاء التصوير كأحد العناصر المهمة في الفيلم، خاصة أنه كان في معظمه (نحو 90 في المئة) داخل كابينة سيارة ضخمة، وهذا الحيّز الضيق ليس سهلاً التحكّم فيه، وتم تصميم معدات تناسب التصوير، وهنا يكمن احتراف وتميز مدير التصوير عبد السلام موسى، وثمة أدوات ومعدات تم وضعها من الأمام والخلف كي يمكن التصوير في أثناء القيادة، وتمّت الاستعانة بعمل تقني مرتفع الجودة وتجهيز كابينة القيادة بتركيبات معينة كي يخرج التصوير في أفضل وضع، حيث كان ممدوح يقود الشاحنة بشكل حقيقي في بعض المشاهد وتعلم قيادتها من أجل هذا الفيلم.
ومحمود عزت، كاتب مصري شاب، تخرّج في كلية الطب جامعة القاهرة، وعمل في مجال إنتاج وإخراج الأفلام الوثائقية، ثم في كتابة البرامج التلفزيونية والدراما، وترأس فريق كتابة برنامج “أبلة فاهيتا”، وشارك في كتابة فيلم “فيلا 69″، وصدرت له ثلاثة دواوين شعرية، وكتب السيناريو والحوار لعدد من المسلسلات التلفزيونية، منها “الآنسة فرح”، و”ما وراء الطبيعة”، وهو أيضا مؤلف فيلم “سعاد” الذي يمثل مصر في مسابقة الأوسكار هذا العام.