محمد موسى: السينما الوثائقية ضرورة لكشف الحقيقة أمام الأجيال القادمة
«سينماتوغراف» ـ رشا الصالح
صارت السينما التسجيلية والوثائقية كأداة تعبيرية مطلبا كبيرا فى الأعوام الأخيرة، ذلك أنها سينما الحقيقة صاحبة العين الكاشفة لمجريات الأحداث والوقائع، وهنا تكمن أهميتها وخطورتها، خاصة فى ظل الظروف السياسية التي عصفت بالبلاد العربية من نزف دموي واستلاب مدمر ممنهج لحضارتها، صارت القضايا العاصفة به تشغل السينمائيين وكل من سنحت له الفرصة لحمل كاميرا، لنقل معاناة الشعوب بمواضيع تتعلق بقضاياهم مثل النزوح واللجوء والتهجير والهجرة، وتوثيق الحروب، والأمثلة كثيرة من نماذج قدمتها السينما التسجيلة والوثائقية عبر التاريخ العربي المعاصر، وإذا ما أخذنا كيفية تعاطي السينما مع قضية الشعب الفلسطيني والمعاناة التى يعيشها من حالات تهجير ونزوح وسكن في مخيمات اللجوء وخصوصا بعد الحرب الفاشية في البلدان المجاورة والتي لجأ لها الفلسطينيون وأهمها سوريا، مما شهدته في سنواتها الماضية من نار حرب فتاكة أثرت أيضا عليهم، واضطرتهم لعيش تغريبة جديدة، بشتى أشكال الألم المضني.
من هذا الوجع الكامن بالفلسطينين اللاجئين، انطلق المخرج السوري محمد موسى بكاميرته، ليتجول في مخيم «جرمانا» للاجئين الفلسطينيين من خلال فيلمه «ظل الجليل» ومعظم سكانه من منطقة سهل الحولة وهي المنطقة التي تقع خلف هضبة الجولان المحتل والتي تتبع لما يسمى لواء الجليل الأعلى في فلسطين والذى يقدم من خلاله لغة سينمائية متفردة بعيدة عن النمطية، فالبطل الحقيقي في الفيلم هو المكان الذى تنساب في حواريه طرائق تفكير الأهالي وتمسكهم بأرضهم وإظهار حالة الوجد الجميل والعميق بين الفلسطيني وقريته. ناقلا لنا صورة صادقة من خلال شريط سينمائي توثيقي يمتد لمائة دقيقة فى هذا المخيم الذي يعد من أقدم المخيمات الفلسطينية في سورية، راصدا بدايات الثورة الفلسطينية، والمساهمة السورية في تأسيسها ومساندتها ضد الاحتلال الاسرائيلى واحتواء لاجئيها، عارضا لحكاية مرسومة برؤية واقعية من خلال ذاكرة شخوصها وذاكرة المخيم ذاته، متناولا طرح الألم الفلسطيني فى مزج بين سورية ومخيماتها ومعاناة المخرج الذي لم يفصل ألمه وتعبه عنهم والذي وضع الفيلم في أماكن محددة لسردية طويلة ممن رووا مجرياته، مسجلا تأريخا لهذا المخيم برؤيته السينمائية مضيفا للسينما السورية الوثائقية نموذجا جديدا يضاف لرصيدها السينمائي.
ومحمد موسى حاصل على دبلوم في السينما من فرنسا وقد شارك في عدة أعمال سينمائية سابقة نذكر منها فيلم «متصوف» – مشرف عام على فيلم «هي ثلاثة مسامير فقط» ومخرج منفذ في فيلم «عشتار» – مساعد مخرج في فيلم «حبر الآن»، وعن فيلم «ظل الجليل» وعن السينما الوثائقية وأعماله السينمائية كان هذا اللقاء لـ «سينماتوغراف» مع المخرج محمد موسى:
ـ بداية كيف ترى أهمية الفيلم الوثائقي ودوره في كشف الحقيقة خاصة في ظروف الحروب والدمار التي تمر بها المنطقة العربية؟
أود أن أوضح مبدأ هام للتفرقة بين السينما الوثائقية والسينما التسجيلية حيث أن الفارق بينهما يبدو غير واضح ومبهم لدى الكثيرين بل يصل إلى المدارس السينمائية نفسها في الخلاف، إن ما يجمع بينهما واضح ولكن الفرق غامض حيث أنهما يشتركان في غياب الممثلين والسيناريو الحواري الكامل الجاهز سلفا وتحضير اللقطات الفنية وتكرارها. بينما يختلفان في الهدف، وإذا درسنا السينما الوثائقية وأدواتها من حيث عدم الاعتماد على الحوارات المعدة سلفا وكذلك عدم الاعتماد على الممثلين فإن ذلك يكسب الفيلم مصداقية لمضمونه أكبر بكثير من السينما الروائية لدى المشاهد. فالشخصيات التي صورت أو تكلمت في الفيلم الوثائقي هي شخصيات موجودة بأرض الواقع فعلا لذلك فإن مستوى المصداقية مرتفع جدا للفكرة التي يطرحها الفيلم الوثائقي. وهو أكثر ديمومة ويمكن استخدامه كأرشيف مرجعي لمكان أو لتاريخ أو لمشكلة ما. وفيما يخص سوريا فهي فعلا بحاجة إلى عدد ضخم جدا من الأفلام الوثائقية بضخامة الأحداث التي اتخذت من أرضها مسرحا عبثيا. وهي ليست من أجل إيضاح الحقيقة فقط بقدر ما هي وثيقة مهمة للأجيال القادمة.
ـ أين الفيلم الوثائقي السوري من كل مايجرى بأرضها؟ وما دوره هل شهد انجازا برأيك؟.
في هذا الشأن أريد التطرق إلى موضوع هام فعلا وهو أن السينما الوثائقية ليست حاجة محلية فقط إنما هي حاجة عربية وإنسانية، على سبيل المثال لم يقم السوريون بتصوير فيلم وثائقي عن الأحداث الدموية الإرهابية التي شهدتها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي والتي يحدث في سوريا ما يشابهها الآن، وكذلك لم يأت الأخوة الجزائريين لتصوير فيلم وثائقي عما يحدث في سوريا. لماذا هذا التقصير في تأريخ هذه الأحداث الدموية وعرضها على الأجيال لتجنب الوقوع في براثنها مستقبلا. الأخوان المسلمين وبكل وقاحة أعادوا فعلتهم مرة أخرى ولا يوجد أي فيلم وثائقي يتحدث عن فعلتهم النكراء الأولى في أحداث حماة، يجب الإصرار على وجود الفيلم الوثائقي وهو مسؤولية حكومية تستحق أشد الاهتمام ليس فقط من أجل الأحداث الحالية وإيضاحها ولكنها مسؤولية تجاه الأجيال القادمة.
ـ لم توجهت للقطاع العام في انتاج فيلمك؟ وأين دور القطاع الخاص أو المشترك فى دعم الإنتاج السينمائي؟
للتوضيح إن فيلمي كان من إنتاجي الخاص ولكن تم التعاون مع المؤسسة العامة للسينما التي تابعت باهتمام انجاز هذا العمل. إن القطاع الخاص لن يدخل على المدى المنظور في إنتاج أفلام وثائقية وذلك لأنه دائما يهتم بالعائد المادي وهم معذورون لحد ما بهذا الشأن. إن إنتاج أي شيء يتطلب استثمارا ماليا وعدم وجود عائد مالي يؤدي إلى التوقف عن الاستثمار في المنتج بنفس المفهوم يمكن أن يطبق على السينما وأنواعها في سوريا فعدم وجود عائد مالي لهذه الأفلام يمنع المنتجين من استثمار أموالهم فيها ولنفس السبب يمتنعون حتى عن التوجه نحو الأعمال المشتركة بالرغم من أن الاستثمار في الفيلم الوثائقي هو على مستوى التقييم العالمي أقل خطورة بكثير من الاستثمار في السينما الروائية.
ـ ماهي الصعوبات التي تعترض إنتاج الفيلم الوثائقي والتي واجهتك في فيلمك ظل الجليل؟
إن إنتاج أي فيلم يتطلب تحضير وتصوير وعمليات فنية وفي كل خطوة تتطلب المال وأن ضعف ويمكن أن نقول أن انعدام الموارد التي تستثمر في مجال الأفلام الوثائقية هو الذي أجبرني على الاستثمار من مالي الخاص فصعوبات الإنتاج هي مالية بالدرجة الأولى. بينما في الإخراج هناك معضلة حقيقية لا يمكن مصادفتها في الأفلام الروائية. لا يمتلك الفيلم الوثائقي كما قلت سيناريو متكامل. لكنه يمتلك سيناريو مبدأي وهو أقرب ما يكون إلى جدول أعمال يتضمن اللقاءات والمناطق والأسئلة. كما أن اللقطة هي وليدة اللحظة فإما أن تستطيع أخذها بالوقت المناسب أو أن تذهب دون أن توثق، وعندما تم الإنتهاء من تصوير فيلم «ظل الجليل» كنا أمام مادة فيلمية مدتها 80 ساعة بأربع كاميرات أي نحن أمام مادة فلمية «رشز» مدتها 230 ساعة تقريبا والمطلوب من كل ذلك هو فيلم مدته ساعة أو ساعتين. فأنت تصور كل شي ثم تجلس على عمليات مونتاج متعبة جدا وطويلة لقد كانت عمليات المونتاج مضنية فعلا لدرجة أني سوف أمتنع في الوقت الحالي عن تصوير الأفلام الوثائقية حتى أستطيع تجاوز كل هذا التعب.
ولكن الأهم من ذلك كله وقبل كل شي هي الموافقات ونتمنى بالقريب العاجل أن تعمل الدولة على إحداث جهة واحدة للحصول على موافقات التصوير ودفع الرسوم كبقية دول العالم وهذا سوف يكون عاملا مساعدا جدا في أن نشاهد غزارة سينمائية في سوريا وبالأخص في مجال سينما الشباب.
ـ ماذا يمثل لك فيلم «ظل الجليل»؟ وماهي الرسالة التي تود نقلها من خلاله؟
بعد مرور خمس سنوات على الهجمة القذرة التي استهدفت سورية اتضحت تماما أسباب الحرب التي شنت على هذا البلد الآمن. وكان من بين أسبابها المهمة استهداف التواجد الفلسطيني فيها وتدمير مخيماتهم واستجرار البعض منهم إلى بوتقة هذه الحرب لكسر الإجماع الشعبي على تأييد القضية الفلسطينية من جهة ومن جهة ثانية إلغاء آخر مكان لتواجد الفلسطينيين في دول الطوق تمهيدا لتصفية أهم أعمدة القضية الفلسطينية ألا وهو حق العودة، ان مخيم جرمانا هو أقدم المخيمات الفلسطينية في سوريا وهو الوحيد الذي بقي آمنا ولم يتحول إلى ساحة معارك وكان مقصدا ومضيافا لبقية الفلسطينيين الذي هجروا من بقية المخيمات في سوريا. لذلك قررنا العمل على تصوير فيلم وثائقي لسبر أغوار هذا المخيم والدخول إلى أزقته ومنازل ساكنيه ورصد التركيبة الفكرية والديموغرافية لأهالي المخيم، وبالنسبة لي شخصيا تولدت لدي بعد هذا الفيلم ثقة أن فلسطين هي وحدة جغرافية مع سوريا ولبنان وهذا الارتباط الجغرافي والديموغرافي سيؤدي فعلا إلى ارتباط مصيري بين هذه الدول في كل شيء. فلن تشفى سوريا حتى تشفى فلسطين ولبنان إن مرض أي دولة هو مرض البقية والعكس صحيح. إن جبل الشيخ يروي سورية ولبنان وفلسطين وارتباط هذه الدول هي بقوة هذا الجبل.
ـ هل نجحت أفلام التوثيق للهجرة في نقل الوجع الانساني بعين السينما ؟ وكيف تحدد وضع السينما السورية الروائية الآن؟
لم تنجح لأسباب عديدة، لقد تابعت تقريبا جميع الأفلام التي أنتجت في سوريا خلال الأزمة وهنالك بالفعل أفلاما ذات مستوى عالمي مثل «الرابعة بتوفيت الفردوس» للمخرج محمد عبد العزيز، و«السلام عليك يامريم» للمخرج باسل الخطيب وهناك بعض الأفلام كنت أتمنى لو أنها عولجت بطريقة مختلفة فهناك حالة ضبابية تخيم على السينما السورية في بعض الأفلام وهو عدم ادراكها للمتحولات الاجتماعية المحلية والعالمية. إذا أصبح من غير المناسب في السينما إعادة خلق وتصوير الواقع فالمحطات الفضائية والإنترنت واليوتيوب تعج بآلاف المشاهد التي تعصف بدموية ما يحدث في سوريا. فلا فائدة من إعادة تصوير قتل جماعي أو إرهابيين أو تفجيرات فمهما بلغت من الحرفة فإنها لا تستطيع مشابهة الواقع الذي تراه الناس. أعتقد أن السينما يجب أن تركز على التأثيرات وليس على المسبب. فمسببات الحرب العالم كله أصبح على دراية كاملة بها وعندما كنت في مهرجان كان السينمائي التقيت العديد من الأشخاص الذي أبدوا وعيا كاملا بحقيقة ما يحدث في سوريا فالمجال السينمائي الروائي السوري يجب أن يركز على التأثيرات التي تدمي القلوب وعلى المستضعفين والمغلوب على أمرهم ويترك الواقعية للسينما الوثائقية والمحطات الإعلامية.
ـ وماهي مشاريعك القادمة؟
هناك مشروعين الأول هو فيلم روائي طويل بعنوان «البحر وشجرة الكرز» والثاني اعكف حاليا على كتابة السيناريو وهو فيلم بعنوان «الطريق إلى ألمانيا».