«سينماتوغراف»: صفاء الصالح
يواصل مهرجان لندن السينمائي تكريس نهجه في الاحتفاء بالتعددية الثقافية والتركيز على حقوق الأقليات والفئات المهمشة وتحديداً كفاح السود ضد التمييز ونضال المرأة من أجل حقوقها.
ويستمد هذا النهج جذورة من طبيعة لندن، المدينة التي ينطق المهرجان باسمها، بوصفها إحدى أبرز الحواضر الثقافية في العالم، وعاصمة أمبراطورية قديمة باتت اليوم ساحة للتنوع العرقي والحضاري والتعددية الثقافية.
وضمن هذا النهج جاء افتتاح دورة المهرجان الخامسة والستين مساء الأربعاء بفيلم جمع عدداً من المواهب السينمائية السود، إخراجاً وانتاجاً وتمثيلاً وموسيقى، وإن ظل موضوعه ضمن تيار السينما السائدة وتحديدا أفلام الغرب الأمريكي.
ومعنى عنوان فيلم صموئيل” ذا هاردر ذي فول ـ The Harder They Fall” التي قد تحيل ترجمته حرفياً إلى السقوط القاسي أو الصعب ويمكن عنونته “سقوطهم الأصعب”، أي كلما كان الشخص كبيراً وقوياً فأن سقوطه سيكون كبيراً ومدوياً وأكثر قسوة،
ويندرج فيلم صموئيل ضمن مجموعة من الأفلام التي تحاول أن تعيد تصحيح هذه الصورة السينمائية وتقديم صورة السود ضمن بيئة الغرب الأمريكي التي لجأوا إليها هرباً من العبودية وبعد نهاية الحرب الأهلية الأمريكية. وقد بدأ الاهتمام بهذا التوجه مع تقدم حركة الحقوق المدنية، وزاد التركيز عليه مؤخراً مع التأكيد على ضرورة تقديم تمثيل عادل للسود في السينما وعالم الفن عموماً، مع تصاعد حركة احتجاجات “حياة السود مهمة”.
وضع صموئيل تصحيح هذه الصورة هدفاً أساسياً في فيلمه الروائي الأول (سبقه تمرين في فيلم طوله نحو 51 دقيقة، من أفلام الويسترن أيضا حمل عنوان “يموتون بحلول الفجر” عام 2013)، لذا ركز على أن تكون لقصة فيلمه جذور في الواقع، وتبنى على شخصيات حقيقية عاشت في الغرب الأمريكي.
من هنا جاء اختياره لشخصية “نات لوف” وهو رجل كابوي أمريكي-أفريقي كان عبداً سابقاً في الفترة التي أعقبت الحرب الأهلية الأمريكية، وقد أدى دوره في الفيلم الممثل جوناثان ميجورز. وقد بني حبكة السيناريو الأساسية على عودة لوف لجمع أعضاء عصابته السابقة بعد معرفته بهروب خصمه “روفوس باك” من سجنه. وباك أيضاً شخصية حقيقية وكان يقود عصابة مؤلفة من السود وبعض السكان الأصليين في أمريكا وقد ألقي القبض عليه بعد ارتكابه العديد من الجرائم وشنق في عام 1896. (الفيلم يجعل موته على يد لوف).
إلى جانب هاتين الشخصيتين استخدم الفيلم شخصيات حقيقية أخرى مثل ماري فيلد ( الممثلة زازي بيتز)، التي ظهرت في الفيلم بدور حبيبة لوف، وهي امرأة تحررت من العبودية وحصلت على عمل في حماية البريد وكانت تجيد استخدام السلاح. وكذلك “باس ريفز” الذي أدى دوره في الفيلم الممثل (ديلروي ليندو) والذي كان أول رجل أمريكي- أفريقي يتولى منصب نائب مارشال في منطقة غربي نهر الميسيسيبي؛ ويقال إنه ألقى القبض على أكثر من 3000 مجرم مطلوب للعدالة. فضلاً عن شخصية شيروكي بيل وهو أيضاً رجل عصابات حقيقي أعدم في عام 1896.
يجمع سيناريو الفيلم، الذي كتبه المخرج نفسه والسينارست والمخرج السينمائي بوآز ياكين، هذه الشخصيات الحقيقية ولكن ضمن حبكة متخيلة عمادها الرغبة في الانتقام كما هي الحال في الكثير من أفلام الويسترن، وهي هنا محاولة لوف الانتقام من رجل العصابات باك، الذي سبق أن قتل والديه، بعد معرفته أن عصابته تمكنت من إيقاف القطار الذي ينقله إلى سجنه وإطلاق سراحه.
يعود لوف إلى بلدته القديمة ليلتقي حبيبته السابقة ماري وليجمع بعض رفاقه القدامى، ليبدأ رحلته إلى البلدة التي يسيطر عليها باك وعصابته، وينضم إلى هذه الرحلة رجل تنفيذ القانون ونائب المارشال باس ريفز الذي كان يريد القبض على لوف وباك معا لكننا نراه في الفيلم ينضم إلى عصابة لوف من أجل القبض على باك أولا.
ومع الاقتراب من البلدة يُرسل لوف ماري لاستطلاع الأوضاع فتتمكن مساعدة باك، ترودي سميث (الممثلة رجينا كينغ)، من أسرها وعندما يدخل الآخرون البلدة إثرها يطلب باك من لوف سرقة بنك من أحدى مدن البيض وتقديم فدية مقابل تحريرها. (الطريف هنا أن صموئيل يظهر المدينة البيضاء بصورة مبالغ فيها، وكل شيء فيها أبيض حتى تراب شوارعها!!).
وتندلع في مشهد الختام معركة كبيرة بين الجانبين تحتل نحو الربع الأخير من الفيلم وسط سياق متوتر ومشاهد سريعة والكثير من مشاهد العنف على خلفية موسيقية صاخبة. ووسط طوفان العنف هذا يحرص المخرج على تقديم مبارزات ثنائية بين أبطاله، كما هي الحال بين المرأتين: ماري وترودي سميث أو بين لوف وباك.
يدين المخرج جيمس صموئيل في هذا الفيلم بالكثير لأسلوب المخرج الأمريكي كونتين تارانتينو، ويستعير الكثير من ملامحه؛ بدءاً من مشاهد العنف المفرط على خلفية من الموسيقى الصاخبة، والطريقة الغريبة في تقديم شخصياته التي تبدو أقرب إلى مجلات الكوميكس، وإيقاف الصورة واستخدام الكوادر الثابتة، والحوارات الغريبة والطريفة؛ بيد أن صموئيل حرص أيضاً على أن يضفي بعض لمساته الخاصة وتحديدا في مجال الموسيقى ورسم إيقاع فيلمه؛ الذي كانت الموسيقى في كثير من أجزائه تقود الانتقالات بين المشاهد، وينتظم إيقاع الفيلم على إيقاعها. فصموئيل جاء إلى السينما من الموسيقى بوصفه مغنياً وكاتب نصوص غنائية ومنتجاً موسيقياً، ( سبق أن عمل مستشارا موسيقيا لألبوم “غاتسبي العظيم: موسيقى من فيلم باز لورمان” مع مغني الراب الشهير جاي-زي، الذي يميل صموئيل للتعاون معه دائما وسبق أن اخرج فيلما قصيرا عنه بعنوان “جاي-زي: الأسطورة” 2017. قد أنتج جاي زي فيلم صموئيل الأخير إلى جانب المنتج لورانس بندر الذي أنتج كثيرا من أفلام تورانتينو الأولى.
كما بدت تلك اللمسات واضحة في تلك المشاهد التي حاول فيها استخدام كنايات تعبيرية مبالغ فيها تتجاوز الشرط الواقعي؛ كما هي الحال مع تصويره للمدينة التي يسكنها البيض بصورة يبدو فيها كل شيء أبيض حتى اسفلت وتراب شوارعها.
وتنسحب تلك المبالغة، بل قل الرؤية المتطرفة، على تقديم الشخصيات البيضاء التي تظهر في الفيلم بطريقة هامشية مبالغ فيها، وغالبا ما تتسم بالجبن والضعف أو تكون عرضة للموت في مشاهد العنف المفرط (مشهدي ايقاف القطار وسرقة البنك).
ولعل تلك المعالجة تمثل بنظرنا محنة فيلم صموئيل والمأزق الذي سقط فيه. فعلى الرغم من سعيه الى إعادة تقديم ما يراه محذوفاً ومهمشاً من تاريخ أفلام الغرب الأمريكي، إلا أنه لم ينج من أسر قواعد وقيود النوع الفني الذي استخدمه الذي يتوسل التسلية والامتاع وينأى عن تحليل الواقع الاجتماعي واختلالاته التي انتجت العقلية العنصرية ويركز على مشاهد الإثارة والتشويق والعنف المفرط بدلاً عن ذلك.
و لا يكفي هنا أن يكون مخرج الفيلم أسود ليكون فيلمه منصفاً لقضية السود، فالحبكة التي زج فيها صموئيل شخصياته الحقيقية ظلت هي ذاتها حبكة أفلام الغرب “البيضاء”؛ كما نراها في أفلام وَين وأيستوود، وإن بدت بشرة ممثليها مختلفة لكنها قائمة على العنف والتشويق نفسه.
وقد انتهى الفيلم إلى الفشل في استثمار سير شخصياته الحقيقية التراجيدية الخارجة منذ فترة قصيرة من نار العبودية وتقديم حياتها في الواقع بعيداً عن التنميط الذي تفرضه طبيعة أبطال أفلام الغرب الأمريكي؛ ففي الوقت الذي أعدم بعضهم في الحياة الحقيقية، نراهم في الفيلم في صراع ضار في ما بينهم، ويتقدم هذا العنف الإجرامي المجرد إلى مقدمة الصورة ويغيب عنف العبودية وتاريخ اغتراب السود واضطهادهم في تلك المرحلة.
ولعل مثل هذه الخلاصة تحيلنا هنا إلى استخدام استعارة مقلوبة لعنوان عنوان كتاب فرانز فانون الشهير “بشرة سوداء، أقنعة بيضاء” لنقول أننا في هذا الفيلم، رغم النوايا الطيبة التي تحكمه، كنا أمام بشرة بيضاء بأقنعة سوداء.